… وإن قالت: أراد منهم الإقرار والعمل ـ قيل: فإذا كان أراد منهم الأمرين جميعاً، لِمَ زعمتم أنه يكون مؤمناً بأحدهما دون الآخر، وقد أرادهما جميعاً؟ أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل جميع ما أمر به الله ولا أقرّ به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإن قال: أقرُّ بجميع ما أمر الله به، ولا أعمل به يكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل: ما الفرق. فقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعاً، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر، جاز أن يكون بالآخر إذا عمل به ولم يقر مؤمناً، ولا فرق بين ذلك.
فإن احتجّ فقال: لو أن رجلاً أسلم فأقرَّ بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أيكون مؤمناً بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل. قيل له: إنما يطلق له الاسم بتصديق أن العمل عليه بقوله أن يعمله في وقته إذا جاء وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمناً، ولو قال: أقر ولا أعمل لم يطلق عليه اسم الإيمان ـ يعني أنه لا يكون مؤمناً إلا إذا التزم بالعمل مع الإقرار، وإلا فلو أقر ولم يلتزم بالعمل لم يكن مؤمناً [1].
فإذاً العمل ركن في الإيمان على رأي السلف والقول بأخراجه غير صحيح والسلف جميعاً ضد هذا الرأي الأخير لما له من نتائج خطيرة على الإسلام الذي هو دين عملٍ وكدٍّ وكفاحٍ، لا يعرف الكلل، ولا يركن إلى السلبيات، بل يبحث عن الإيجابيات التي تحرك المسلم، وتدفع به إلى الإنتاج النافع، الذي يرتفع بمستوى هذا الدين إلى المكانة اللائقة، التي يجب أن نحاول الوصول بديننا الحنيف إليها. فالمسلمون كانوا في الصدر الأول مدركين لهذه الحقيقة، إذ ورد في وصفهم بأنهم كانوا رهباناً بالليل، أسوداً بالنهار، فينبغي أن يسلك المسلمون في هذا العصر، وفي كل زمان بعده، مسلك أولئك الرجال الذين كانوا خير مثل في تطبيق تعاليم هذا الدين الحنيف. وهذا المسلك لا يتناسب معه إلا رأي السلف الصالح، الذي [1] انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية، ص332.