ولبيان موافقة البيهقي للسلف في هذا الأسلوب أورد مثالاً لذلك رد الإمام ابن قتيبة استدلال المعتزلة والجهمية بالآيتين السالفتين حيث قال: " {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} فإن الجعل يكون بمعنيين: أحدهما خلق، والآخر غير خلق، فأما الموضع الذي يكون فيه خلقاً، فإذا رأيته متعدياً إلى مفعول واحد لا يجاوزه كقول الله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [1]. فهذا بمعنى: خلق ...
وأما الموضع الذي يكون فيه غير الخلق فإذا رأيته متعدياً إلى مفعولين كقوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [2] أي: صيرتم، وكقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [3] ... فإن هم وجدوا في القرآن كله "جعل" متعدية إلى القرآن وحده ليقضوا عليه بالخلق، فنحن نتابعهم.
وكذلك المحدث ليس هو في موضع بمعنى مخلوق، فإن أنكروا ذلك فليقولوا في قول الله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أنه يخلق ... وكذلك قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أي: ذكر حدث عندهم لم يكن قبل ذلك"[4].
وقد أورد البيهقي قدراً كبيراً من أقوال السلف الناطقة بما قرره من أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، فمنها ما رواه عن سفيان بن عيينة - رحمه الله - أنه قال: "أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة منهم عمرو ابن دينار يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق"[5]. [1] سورة الأنعام آية: 1. [2] سورة النحل آية: 91. [3] سورة البقرة آية: 66. [4] الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة ضمن مجموعة عقائد السلف ص: 234-235. [5] الأسماء والصفات ص: 245، وخلق أفعال العباد للبخاري ص: 7.