المحال الممتنع أن يقع الكذب من رب العالمين، وكيف يتصور وقوعه منه؟ وهو عالم الغيب والشهادة القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الحكيم الحميد الذي له الحمد كله، وإنما تخبط في ذلك متأخروا الأشعرية. وكأن الموقع لهم في التخبط ما ألزمهم به المعتزلة في مسألة القدر، - والخوض في القدر أم كل بلية - ولأمر ما ورد في الشرع النهي عن ذلك وشدد فيه السلف.
وإيضاح هذا أن الأشعرية لما صار قولهم إلى أن العباد مجبورون على أفعالهم، قال لهم المعتزلة: كيف يجبر الله تعالى خلقه على الكفر والفجور ثم يعاقبهم عليه، وهذا قبيح ومفسدة والله تعالى منزه عن القبائح، وأفعاله مبنية على المصالح، فاضطرب الأشعرية في هذا ثم لم يجدوا محيصاً إلا أن يجحدوا هذين الأصلين، فقالوا: الأفعال كلها سواء عند العقل ولا يدرك منها حسناً ولا قبحاً، والله عز وجل لا يفعل لشيء، ولا لأجل، إنما يفعل ما يريده، وإرادته لا تعلل بشيء البتة. فقال المعتزلة: فيلزمكم أن يجوز عقلاً أن يكذب الله تعالى، فحاول بعض الأشعرية التملص من هذا الإلزام بوجهين:
الأول: أن الكذب نقص والله سبحانه منزه عن النقص.
الثاني: أنه لو جاز لكان قديماً، وما ثبت قدمه استحال عدمه فيمتنع الصدق. فلم ير بقية الأشعرية هذين الوجهين شيئاً.
أما الأول فلأنه لم يقم برهان عندهم - زعموا - على براءته تعالى من النقص، ومن قال منهم بالبراءة، إنما يقول به في الصفات لا في الأفعال، فأما النقص في الأفعال فهو القبح العقلي الذي ينكرونه.
وأما الثاني فلإنه لو تم يختص بما يسمونه الكلام النفسي، والنزاع إنما هو في الكلام اللفظي.
فصار الأشعرية إلى التزام أنه يجوز عقلاً أن يقع الكذب من الله تبارك وتعالى، ثم حاولوا القول بأنه وإن جاز عقلاً فلا يقع، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم