ما قصد في سننه إلا جمع الغرائب؛ ولذلك تراه يذكر الصحيح والسقيم والموضوع؛ فتارة يبين حال الرواية وقد لا يبين حالها؛ اتكالًا على ظهوره عنده، وقد كتب عليها في زماننا العلامة شمس الحق العظيم آبادي الدهلوي حاشية سمَّاها: «التعليق المغني على سنن الدارقطني» ؛ أجاد فيها وأحسن. وأما البيهقي فقد جمع في سننه مثل الدارقطني؛ ولذلك احتوت سننه على الغث والسمين، وقد اختصرها الحافظ شمس الدين الذهبي؛ فجردها من الأحاديث الواهية، وللإمام علاء الدين المارديني التركماني ردّ عليها في سفرين سمَّاه: «الجوهر النقي في الرد على البيهقي» .
فقد تبيَّن لك حال هذه الأحاديث التي ذكرها السبكي. وعلى تسليم ثبوتها؛ فهي لا تفيد إلا مشروعية الزيارة فقط، وشيخ الإسلام لا ينكر مشروعية الزيارة ـ كما شهد له بذلك هذا المعترض نفسه ـ؛ وإنَّما النزاع في مسألة: استحباب شدّ الرحل إلى مجرد الزيارة من غير قصد الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم. وهذه الأحاديث لا تفيد بمنطوقها إلا الزيارة، وقول السبكي: «إنّ لفظ (الزّيارة) يتناول شدّ الرحل وغيره من المعاني» ؛ فمردود بفعله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه ما ثبت عنه في حديث صحيح ولا ضعيف ولا مكذوب أنه شد رحله إلى زيارة قبرٍ من قبور الأنبياء ولا غيرهم من قبور المؤمنين، ومعلوم أن قبور الأنبياء وغيرهم كانت موجودة في زمانه صلى الله عليه وسلم وفي زمان أصحابه؛ فما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان يزور قبور أهل البَقيع وغيرهم، من غير شد رحل ولا سفر؛ فهل يقول مسلم: إنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه تركوا أمرًا مشروعًا محبوبًا لله ـ سبحانه وتعالى ـ واهتدى إليه السبكي وأضرابه؟؟! فسبحانك هذا بهتان عظيم. وكيف ينطبق هذا على قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له» ، وعلى قوله ـ تعالى ـ: {اليوم أكملت لكم