أنواع القرب، فإذا كان هذا السّفر محتمل لجميع هذه المعاني كلها؛ فليس حمله على معنى منها بأولى من حمله على غيره، وقد تقرّر عند أهل الأصول: أنّ «الدّليل إذا تطرّق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال» ؛ فلا حُجّة له حينئذ في هذا الإجماع، وهذا لو سلمنا للسّبكيّ أنّ هذا إجماع، وكيف يسمّى إجماعًا وقد شرط أهل الأصول للإجماع شروطًا، وبيّنوا ما يسمى إجماعًا وما لم يُسَمّ، وقد اختلف المسلمون في الاستدلال بالإجماع؛ فقال بعضهم: لا حُجّة فيه إذا كان مخالفًا للكتاب والسُّنّة، وبعضهم قال: معرفته ليست ممكنة، ولهم في هذا تفاصيل كثيرة، وإليك بعض ما قالوه:
(مبحث الإجماع) :
يتُكَلَّم في الإجماع من وجوه: كبيان معناه شرعًا، وبيان جواز وقوعه، وإمكان العلم به ونقله، وبيان ركنه وشروطه، وحجّيته، ومستنده، ومراتبه.
الإجماع شرعًا: اتفاق مجتهدي أمّة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر على حكم شرعيّ، وليس هو ولا العلم به ولا نقله إلينا مستحيلًا؛ فإنَّا قاطعونت بإجماع أهل كلّ عصر على تقديم القاطع على المظنون، حتى صار ذلك من ضروريّات الدّين، ولا اعتبار بخلاف النّظَّام وبعض الشيعة في ذلك ـ مستندين لأمور واهية ـ.
ركن الإجماع: تكلُّم المجتهدين على الحكم في العصر الذي حصل الإجماع فيه أو فعلهم كما أجمعوا عليه كذلك، كشروعهم في المزارعة والمساقاة، أو تكلُّم البعض أو فعلُه وسكوت الباقي بعد علمه، ومُضِيّ مدّة التّأمّل التي أقلّها ثلاثة أيام. انتهى من كتاب «أقرب طرق الوصول إلى قواعد علم الأصول» .
والحاصل: أنّ للأمّة كلامًا كثيرًا في الإجماع، ونحن نقول بجواز وقوعه وحُجّيته، ولكن أي دليل لهذا المعترض فيما ادّعى فيه أنّه إجماع، والحال قد نقضه هو بنفسه ـ كما سنبيّنه ـ.
وقبل المناقشة معه نذكر لك أمورًا تعلم منها أنّ هذا ليس إجماعًا؛ وهي: أنّهم قد عرَّفوا الإجماع بأنّه: «اجتماع مجتهدي هذه الأمّة على حكم شرعيّ، لا يُعلم لهم مخالف في هذا الحكم» ، ومعلوم أنّ مسألتنا هذه ليس لها نصيب من هذا التّعريف؛ لأنّ الخلاف فيها مشهور