معروف بين السّلف والخلف، وقد بيّنّا ـ فيما مضى ـ نقل الخلاف بينهم؛ فممّن لم يجوّز شدّ الرّحل والسّفر إلى غير المساجد الثّلاثة من الصّحابة: أبو هريرة وبصرة الغفاريّ، وممّن كره زيارة القبور من التّابعين ومَن بعدهم: محمد بن سيرين، وإبراهيم النّخعيّ، والشّعبيّ، ومالك بن أنس ـ إلَّا أنّه نُقِلَ عنه الرّخصة في زيارتها ـ.
فإن قلتَ: إنّ التّابعين الذين كرهوا زيارة القبور لم يكرهوا زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
فالجواب: الذين نقلوا عنهم كراهة ذلك لم يذكروا استثناء؛ فعُلِمَ أن ترك الاستثناء يفيد كراهة العموم. وأما إمامنا مالك بن أنس؛ فقد نقل عنه صاحب «المبسوط» كراهة الزيارة مطلقًا ـ كما بيّنه الحافظ ابن عبد الهادي ـ. وممّن نُقل عنه كراهة شدّ الرّحل والسّفر إلى زيارة القبور من غير استثناء من المتأخّرين: ابن الجوينيّ، والقاضي حسين، وطائفة ـ كما ذكره الغزاليّ في «الإحياء» ، والنّوويّ في «شرح مسلم» ، وشيخ الإسلام ومَن وافقه من أهل زمانه ـ. فإذا تبيّن لك هذا؛ علمتَ أنّ المسألة ذات خلاف قديمًا وحديثًا، وأنّها ليست من الإجماع في شيء، ودعوى السّبكيّ أنّها من المسائل المجمع عليها في غاية السّقوط والبعد بما بيّنّاه، ولا أدري: هل هذا المعترض كان يجهل معنى الإجماع أو يتجاهل؟!
والذي يظهر لي: أنّه كان يتجاهل؛ لأنّ معنى الإجماع لا يخفى على مثله، ولكن حمله على ترك بيانه تعصّبه على شيخ الإسلام، وكيف يجعل معناه وهو نفسه قد نقل الخلاف في زيارة القبور، وقبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم داخل بالعموم، وقد