خلقه أو عرشه؟! أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار وهو ليس بمستلزم في المخلوقات؟!. وقد عُلم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحقُّ به وأوْلَى.
وكذلك قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات، فهو جاهلٌ ضالٌ بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء، يقتضي ذلك، فإن حرف (في) متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه.
ولهذا يُفرَّق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيِّز، وكون العَرَض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف (في) مستعملاً في ذلك كله.
فلو قال قائل: العرش في السماء أم في الأرض؟ لقيل: في السماء.
ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل الجنة في السماء.
ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السموات، بل ولا الجنة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن"[1].
فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك، مع أن الجنة في السماء، والسماء يُراد بها العلو، سواءً كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] ، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] .
ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} أنه في السماء، أنه في العلو وأنه فوق كل شيء. [1] أخرجه البخاري في صحيحه (6/11 برقم 279.) وفي (13/4.4 برقم 7423) .