فإن فهم بعض الناس - المرجئة وغيرهم - أن "قول وعمل" تعني قول اللسان وعمل الجوارح دون قول القلب وعمله أمر تنكره البديهة وترده، ولكن العبارة الأخرى توقع في لبس قل من يفطن له ولا يستطيع كل أحد رده، وهو أن هذه الثلاثة - أي الاعتقاد والقول والعمل - منفصلة بعضها عن بعض بمعنى أن الطاعات - التي هي فروع الإيمان وشعبه - على ثلاثة أقسام: قسم قلبي وقسم لساني وقسم عملي [1] ، وعلى هذا قد يفهم أنه يمكن أن يتحقق في الإنسان ركنان من ثلاثة بأن يتحقق لديه الاعتقاد والقول مع عدم العمل بالكلية، وهذا الذي جزم السلف باستحالة وقوعه.
وبيان ذلك يتضح من خلال تأمل كلام أحد علماء السنة المحققين - وهو الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهو من هو علماً وفهماً وإحاطة بأقوال السلف، فانظر إليه حين يقول - شرحاً لترجمة البخاري (وهو قول وفعل يزيد وينقص) : "فأما القول فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح ليدخل الاعتقادات والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى.
فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي.
والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط.
والكرامية قالوا: هو نطق فقط.
والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته، والسلف جعلوها شرطاً في كماله.
وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم.. " الخ
فقارئ كلامه يفهم منه التناقض بين تعريفي السلف في موضوع العمل، فإنه في التعريف الأول: "قول وعمل" يعتبر ركناً، في حين أنه حسب التعريف الأخير: [1] أي: وليس هناك تلازم حتمي بينها، وسنوضح إن شاء الله أن الإيمان حقيقته مركبة من هذه جميعاً في مبحث مستقل آخر الرسالة، وهذا الانفصال إنما قال به بعض المرجئة، فزعموا أن الإيمان جزء والفرائض جزء والنوافل جزء - كما نقل ذلك أبو عبيد - انظر الإيمان لابن تيمية ص 196