وهذا الذي قاله الشيخ قاله من هو أقدم منه؛ كالإمام أبى عبيد القاسم بن سلام، على ما سننقله.
هذا، وبيان الفروق بين مذهب جهم ومذهب المرجئة الفقهاء، وبين هذا ومذهب أهل السنة والجماعة، مما يتضمنه الفصل التالى لهذا، غير أننا لن ندع الحديث عن جهم إلا بعد تنبيه مهم؛ وهو:
إن مذهب جهم لم يكن له فى حياة صاحبه ولا بعد ذلك بزمن أي أثر بارز في واقع الحياة الإسلامية، إنما ظهرت آثاره وعمت ببروز من تبناه من المتكلمين، وعلى رأسهم بشر المريسى [1] ، وقد عاش متهما محاربا - لكن أقل من حال جهم في هذا - ثم ابن كلاب، وقد كان متهما أيضا - لكن أقل من حال بشر - ثم الأشعري والماتريدي، وهما اللذان نشراه، حتى أصبح ظاهرة عامة فى فكر الأمة وحياتها.
وإنما خصصنا هذا بالذكر مع ما سبق من الإشارة إليه لأهميته في معرفة تطور الظاهرة، ولننبه إلى جسامة الخطأ الذي وقع فيه بعض المستشرقين - وتبعهم من تبعهم - في زعم أن ثورة الحارث بن سريج كانت قائمة على عقيدة الإرجاء، وكأن جهما قد ربى تلك الآلاف الثائرة على عقيدته، حتى اندفعوا للخروج على الدولة وإقامة مذهبهم.
والواقع يكذب هذا، فإن جهما كان كاتبا لقائد الثورة، وكان إرجاء جهم رأيا خاصا وفكرة شخصية، لا أثر لها فى توجيه الثورة التي لم تكن تمثل أي عقيدة دينية، وإنما كانت حركة تمرد وعصيان على الدولة، ضمت فى صفوفها من كل الطوائف، بل ضمت أهل الذمة ومشركي الترك، وإنما انضم إليهم جهم - على ما يظهر لي - لأنه هو أيضا خارج على الطاعة، ملاحق من الدولة بسبب بدعته في الصفات التي أطاحت برأس شيخه الجعد من قبل، ويدل لذلك الوثائق الرسمية للدولة، ومخاطبة والي مرو له عند قتله.
روى اللالكائى بسنده عن أحدهم: " قرأت فى دواوين هشام بن عبد الملك إلى عامله بخراسان نصر بن سيار: أما بعد، فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة، [1] انظر، تاريخ بغداد (7/61) ، واللالكائى (3/382) ، وسير أعلام النبلاء (10/199) .