إن في إمكان الإنسان أن يصلي ما شاء الله له، وينفق بما شاء الله له دون أن يناله كبير مشقة، ولكن أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادة اجتماعية درج عليها المجتمع والأقارب أجيالاً، ويتحدى هؤلاء بمخالفتها؟ أو يستطيع أن يقلع عن عادة نفسية وصلت به إلى حد الإدمان؟
فما بالك إذا كان الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو تقليد، وإنما هو مفاصلة كاملة ومنابذة تامة لكل عبادة جاهلية وقيمة جاهلية وعرف جاهلي وميزان جاهلي. ثم هو مع ذلك زجر قاطع للنفس عن شهواتها وملذاتها، ومراقبة شديدة لها، ولهذا رأينا النماذج الكثيرة في الجيل الأول ممن يشهد أن لا إله إلا الله فيعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها وليقطع العلائق التي طالما وثقها.
إنه حتى على المنطق الجاهلي لا يصح أن نتصور إيماناً بدون تكاليف، وشهادة بلا أثر في واقع الحياة، وإلا أفكان الجاهليون يقتلون مواليهم ويعذبون أبنائهم وإخوانهم ويقطعون أرحامهم لمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية ذهنية في المعرفة؟
11 - وهكذا كانت كل خطوة من خطوات الدعوة تسير على الشوك والأذى، حتى كانت الخطوة الفاصلة بالهجرة إلى المدينة، فاكتنفها من المصاعب والشدائد ما هو أشهر من أن يذكر، فقد كانت عيون قريش تلاحقه ورصدها يطارده، حتى قلبوا الجبال والمغارات إلى أن وقفوا على الغار نفسه الذي كمن فيه هو وصاحبه، وكانوا من العثور على فريستهم قاب قوسين أو أدنى.
قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في العار فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه - وفي رواية أحمد: نظر إلى قدميه - رآنا، قال: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" [1] .
ومع اليقين في وعد الله بالحفظ والتمكين لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم السنة الشرعية، فقد كانت هناك خطة محكمة فريدة تتمثل في اختيار الغار وتضليل المشركين بجهته، ثم كان ما تحدثت عنه عائشة رضى الله عنها بقولها: "ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال. يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج عندهما بسحر، فيصبح [1] الفتح (8/325) ، والمسند (1/4) .