وعندما نخاطب المسلمين بأن طبيعة هذا الدين هي هكذا: ألا تكون صعوبة هذا المنهج وارتفاعه وبطء ثمراته وطول طريقه مبرراً لما يتصورونه من إمكان العيش تحت مظلة الجاهلية المعاصرة - مكتفين بأداء الشعائر الفردية ـ هروباً من تلك التضحيات والتكاليف؟
والدعاء خاصة ألا نخشى أن يكون ذلك مبرراً لمحاولة الحصول على الثمرة من طرق أخرى يحسبونها ميسورة سهلة المنال بعيداً عن هذا الطريق المجهد الشاق، وهو ما يحدث فعلاً في أكثر الدعوات المعاصرة؟
إن الإجابة الشافية على هذه الأسئلة بإيضاح الحقائق الكبرى التي يغفل عنها من ينظر لهذا المنهج من أول وهلة، يمكن أن نستنبطها ونقرأها من العرض السابق نفسه ـ أي من واقع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -، كما أن علماء أهل السنة والجماعة أجابوا عنها بلسان الحال أو بلسان المقال أو تلميحاً [1] ، وقد وجدت أن أفضل من أجاب على هذه الأسئلة من فقهاء الدعوة المعاصرين هو الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وهأنذا أنقل من كلامه ما يفيد ذلك - مع بعض زيادات توضيحية [2] -:
"إن حقيقة العبادة لو كانت هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب من الرسائل والرسالات، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان. إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله في الدنيا والآخرة سواء.
إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة. إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود. وأن تتحمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه، فالله سبحانه غني عن [1] من أكثر الناس حديثاً عن هذه القضايا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله. وستأتي النقول عنهما في الفصل الثاني. [2] بعضها مني - وهو قليل -، وبعضها من كلامه في صفحات أخرى مجاورة.