والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله، فإذا كذب بالحق فلم يصدق به، ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسرا بترك تصديق الحق وطلب الخير، فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير؟ فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر؟ فذكر عبد الله بن مسعود أن لقلب بن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان، فلمة الملك تصديق بالحق وهو ما كان من جنس من غير جنس الاعتقاد الفاسد، ولمة الشيطان هو تكذيب بالحق وإيعاد بالشر، وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده: إما مع رجائه إن كان مع هوى نفس، وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها - وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر -.
فمبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان ... " [1] .
وعن هذه أو تلك تصدر الأعمال - خيرها وشرها - التي لا يخلو منها بشر قط.
ومن جليل الاستنباط أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه شيخ الإسلام ابن القيم استخرجا هذه الحقيقة من سورة الفاتحة، وكررا ذلك في كثير من تآليفهما النافعة فكشفا بذلك عن طرف من سر الحكمة الربانية في قراءة هذه السورة في كل ركعة، فكل مسلم لا بد أن يتلوها سبع عشرة مرة في اليوم على الأقل.
يقول ابن القيم رحمه الله: "لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب، كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته. فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل، فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه.
وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. ولهذا كان النصارى أخص بالضلال لأنهم [1] مجموع الفتاوى (4/31- 32) وقد قرر في ص35 "أن المبدأ في شعور النفس وحركتها هم الملائكة أو الشياطين، فالملك يلقي التصديق بالحق والأمر بالخير، والشيطان يلقي التكذيب بالحق والأمر بالشر، والتصديق والتكذيب مقرونان بعمل الإنسان كما أن الأمر والنهي مقرونان بإرادته "، وفي هذا بيان لدور الإنسان في التلقي والامتثال ورد على الجبرية والقدرية.