وبإزاء هذه الأفكار: الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق؛ كالفكر فيما لا يكلف فيه ولا أعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع، كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه.
ومنها الفكر في الصناعات [1] الدقيقة التي لا تنفع بل تضر؛ كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير [2] .
ومنها الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالاً ولا شرفاً، كالفكر في دقائق المنطق، والعلم الرياضي والطبيعي، وآكده علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإنسان غايتها لم يكمل بذلك ولم يزك نفسه [3] .
ومنها الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها، وهذا وإن كان للنفس فيه لذة لا عاقبة له، ومضرته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرته.
ومنها الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان، كالفكر فيما إذا صار ملكاً أو وجد كنزاً أو ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف؟! ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذلك من أفكار السفّّل.
ومنه الفكر في جزئيات أحوال الناس ومداخلهم ومخارجهم، وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة.
ومنها الفكر في دقائق الحيل التي يتوسط بها إلى أغراضه وهواه مباحة كانت أو محرمة.
ومنها الفكر في أنواع الشعر وصروفه وأفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها [4] ، فإنه يشغل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة. [1] كلمة الصناعة تطلق قديما على الحرفة والمهنة التي تحتاج لحذاقة وفطنة؛ كالكتابة والشعر والرسم وما يسمى في عصرنا الفنون. [2] رحم الله ابن القيم، كم جد في هذه الدنيا بعده من ملهيات فكرية قاتلة يهون إزاءها ما قد ذكر، فلو تأمل عاقل كم تستهلك الأفلام الخليعة والألعاب الرياضية والملاهي المساة "الفنون" من أعمار الناس وأموالهم، وكم تبعدهم عن الله واليوم الآخر؛ لصعق عقله، فالله المستعان. [3] وأعظم منها في حياتنا المعاصرة تلك النظريات الهدامة التي استهلكت الأذهان والأموال وأنشئت لها الكليات والبعثات، مثل أكثر نظريات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم السياسة والآداب والفلسفة ودراسة التاريخ الغابر والحضارة المنقرضة بعيدا عن هدى الله. [4] ومنه ما شاع في المتأخرين من التشطير والتخميس والإلغاز، وكذا تكلف المقامات، ثم ما في عصرنا من مسرحيات والقصص والأعمال النقدية والصحفية إلا قليلا منها.