ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور. وحسبك بحال الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-، وهم سادات الأولياء، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟ لا والله، بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن، كالصديق رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه
وقال ابن عباس - في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم-: " ما أرى مَن فعل ذلك له عند الله من خلاق ".
يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه، وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلا خوفا من النار، ثم يقوم إلى صلاته. ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والفرقان والذاريات والطور[1]. فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء، لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر، فكيف يكون المدعي لذلك وليا لله؟ ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش القلوب. نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
قوله: "وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد إلى آخره". هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ضعيف. ولفظه: " رُبّ معلم حروف أبي جاد دارس في [1] قوله تعالى: (13: 19و20) (إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) الآيات إلى 24. وقوله: (13: 30) (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب) . وقوله: (57: 22) (إن الذين هم عن خشية ربهم مشفقون) الآيات إلى (61) . وقوله: (63: 25) (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) الآيات إلى (76) . وقوله: (51: 15) (إن المتقين في جنات وعيون) الآيات إلى (19) . وقوله: (17: 52) (إن المتقين في جنات ونعيم) الآيات إلى (28) . هذا وفي القرآن الكريم صفات المؤمنين كثرة جدا; بل أكثر آي القرآن في وصف الإيمان وأهله; وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومن أدل الدلائل على أن الجهل ضرب على القلوب نطاقا كثيفا أن يعتقد الناس هذه الدرجة الرفيعة لعباد الرحمن في قوم يبولون على ثيابهم وهم في غاية القذر والوسخ, ولا يركعون لله ركعة; وقد سلبوا كل نعمة إلا الحيوانية; وربما تكلم الشيطان على ألسنتهم بالكلمة يفتن بها أولئك الجاهلين, ولا قوة إلا بالله.