وهؤلاء الصوفية قد يخطر على بال أحدهم أن الله لو عذبه لرضي بذلك العذاب كما يرضى صاحب الثواب بثوابه. ويعزم على ذلك بقلبه ولكن هذا من أماني الشيطان الخادعة إذ عند حصول الحقيقة لا يكون لتلك الأمنية أثر ألبتة ولو امتحن الله أحدهم بأدنى محنة لصاح واستغاث وجأر إلى الله أن يعافيه من ذلك، وقد ذكر ابن القيم أن رجلاً يقال له سمنون كان يقول:
وليس لي من هواك بد ... فكيف ما شئت فامتحني
فامتحنه الله بعسر البول فضاعت هذه الدعوى عنه واضمحلت وجعل يطوف على الصبيان في المكاتب ويقول: ادعوا لعمك الكذاب. فالعزم على الرضى لون وحقيقته لون آخر"1.
فعلى العبد المسلم أن يلح على ربه ويرجوه ويستسلم لله في ذلك ويحذر من تلاعب الشيطان به فيؤدي به ذلك إلى ترك الرجاء وإذا وقع في ذلك لم تكتمل عبوديته لربه سبحانه وتعالى وكلما قوي تعلق العبد برجائه ربِّه وخوفه منه كثر فرحه يوم القيامة بحصول مرجوه فينبغي للعبد أن يكون خائفاً راجياً لأن الخوف مستلزم للرجاء والرجاء متضمن للخوف فكل راج خائف وكل خائف راج ولذلك جاء الرجاء في موضع يصلح فيه وقوع الخوف في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً} 2 قال الشوكاني3 رحمه الله تعالى: "أي: أيُّ عذر لكم في ترك الرجاء والرجاء هنا بمعنى الخوف أي ما لكم لا تخافون الله" أ. هـ4.
وقبل أن نختم هذا المبحث نقول: إنه ينبغي لكل مكلف أن يمضي حياته بين الخوف والرجاء ولا يفرط في الرجاء حتى يصير مع المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان
1- مدارج السالكين 2/49 ـ 50 بتصرف يسير.
2- سورة نوح آية: 13.
3- هو: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني: فقيه، مجتهد من كبار علماء اليمن من أهل صنعاء، ولد بهجرة شوكان "من بلاد خولان باليمن" ونشأ بصنعاء وولي قضاءها، ومات حاكماً بها. ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف وتوفي سنة خمسين ومائتين وألف هجرية. انظر ترجمته في "كتاب البدر الطالع 2/214 ـ 225، نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر 2/297، جلاء العينين ص46".
4- فتح القدير 5/498.