كل منهما إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى لا على إبطال ما أصابوا فيه، فكل دليل صحيح للجبرية إنما يدل على إثبات قدرة الرب ـ تعالى ـ ومشيئته وأنه لا خالق غيره وأنه على كل شيء قدير لا يستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات وهذا حق، ولكن ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون العبد قادراً مريداً فاعلاً بمشيئته وقدرته وأنه فاعل حقيقة وأفعاله قائمة به، وأنها فعل له، وأنها قائمة به.
وكل دليل صحيح يقيمه القدرية فإنما يدل على أن أفعال العباد فعل لهم قائمة بهم واقعة بقدرتهم، ومشيئتهم وإرادتهم وأنهم مختارون لها غير مضطرين ولا مجبورين، وليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون الله ـ سبحانه ـ قادراً على أفعالهم وهو الذي جعلهم فاعلين.
فأدلة الجبرية صحيحة متضافرة على من نفى قدرة الرب ـ سبحانه ـ على كل شيء من الأعيان والأفعال ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود، وأثبت في الوجود شيئاً بدون مشيئته وخلقه.
"وأدلة القدرية صحيحة متضافرة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره وقال إنه ليس بفاعل شيئاً والله يعاقبه على ما لم يفعله ولا له قدرة عليه بل هو مضطر إليه مجبور عليه"1.
"فإذا ضممنا ما عند كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى فإنما يدل ذلك على ما دل عليه كتاب الله، وسائر كتب الله المنزلة قبله من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في هذا الكون من الأعيان والأفعال وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم"2.
وعند التأمل للأدلة التي أسلفناها التي دلت على أن العباد فاعلون حقيقة، والله ـ تعالى ـ خالقهم وخالق أفعالهم وأنهم مختارون، لهم إرادة ومشيئة تابعة لإرادة الله ومشيئته. نعلم أن أهل الكلام الباطل، وأهل الأهواء والبدع من جميع الطوائف هم أبخس الناس حظاً، وأقلهم نصيباً، وأخسرهم عملاً. وأن أهل السنة والجماعة هم أهل الحق في
1- شفاء العليل ص51.
2- شرح الطحاوية ص494.