نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 298
عنه كل الأحياء.
إننا لا نعرف شيئاً عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة. ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات. ونحن ملزمون أن نكل مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القوى التي نعرفها على الإطلاق.. قوة الله..
ومن ثم عرّف إبراهيم- عليه السلام- ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد، ولا يمكن أن يزعمها أحد. وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره.. قال: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» فهو من ثم الذي يحكم ويشرع.
وما كان إبراهيم- عليه السلام- وهو رسول موهوب تلك الموهبة اللدنية التي أشرنا إليها في مطلع هذا الجزء- ليعني من الأحياء والإماتة إلا إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء. فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه. ولكن الذي حاج إبراهيم في ربه رأى في كونه حاكماً لقومه وقادراً على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهراً من مظاهر الربوبية، فقال لإبراهيم: أنا سيد هؤلاء القوم وأنا المتصرف في شأنهم، فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له، وتسلم بحاكميته:
«قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» ! عند ذلك لم يرد إبراهيم- عليه السلام- أن يسترسل في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة. حقيقة منح الحياة وسلبها. هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئاً.. وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الخفية، إلى سنة أخرى ظاهرة مرثية وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» .. إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله ليريه أن الرب ليس حاكم قوم في ركن من الأرض، إنما هو مصرف هذا الكون كله. ومن ربوبيته هذه للكون يتعين أن يكون هو رب الناس المشرع لهم:
«قالَ إِبْراهِيمُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ» ..
وهي حقيقة كونية مكرورة كذلك تطالع الأنظار والمدارك كل يوم ولا تتخلف مرة ولا تتأخر وهي شاهد يخاطب الفطرة- حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئاً عن تركيب هذا الكون، ولم يتعلم شيئاً من حقائق الفلك ونظرياته- والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموه العقلي والثقافي والاجتماعي، لتأخذ بيده من الموضع الذي هو فيه. ومن ثم كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل:
«فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» ..
فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم، أو الجدال والمراء.. وكان التسليم أولى والإيمان أجدر. ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر، فيبهت ويبلس ويتحير. ولا يهديه الله إلى الحق لأنه لم يتلمس الهداية، ولم يرغب في الحق ولم يلتزم القصد والعدل:
«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
ويمضي هذا الجدل الذي عرضه الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم- وعلى الجماعة المسلمة. مثلاً للضلال والعناد وتجربة يتزود بها أصحاب الدعوة الجدد في مواجهة المنكرين وفي ترويض النفوس على تعنت
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 298