نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 299
المنكرين! كذلك يمضي بتقرير تلك الحقائق التي تؤلف قاعدة التصور الإيماني الناصع: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» ..
«فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ!» .. حقيقة في الأنفس وحقيقة في الآفاق. حقيقتان كونيتان هائلتان وهما- مع ذلك- مكرورتان معروضتان للبصائر والأبصار آناء الليل وأطراف النهار.
لا تحتاجان إلى علم غزير، ولا إلى تفكير طويل. فالله أرحم بعباده أن يكلهم في مسألة الإيمان به والاهتداء إليه، إلى العلم الذي قد يتأخر وقد يتعثر، وإلى التفكير الذي قد لا يتهيأ للبدائيين. إنما يكلهم في هذا الأمر الحيوي الذي لا تستغني عنه فطرتهم، ولا تستقيم بدونه حياتهم، ولا ينتظم مع فقدانه مجتمعهم.. ولا يعرف الناس بدونه من أين يتلقون شريعتهم وقيمهم وآدابهم.. يكلهم في هذا الأمر إلى مجرد التقاء الفطرة بالحقائق الكونية المعروضة على الجميع، والتي تفرض نفسها فرضاً على الفطرة، فلا يحيد الإنسان عن إيحائها الملجئ إلا بعسر ومشقة ومحاولة ومحال وتعنت وعناد! والشأن في مسألة الاعتقاد هو الشأن في كل أمر حيوي تتوقف عليه حياة الكائن البشري. فالكائن الحي يبحث عن الطعام والشراب والهواء- كما يبحث عن التناسل والتكاثر- بحثاً فطرياً، ولا يترك الأمر في هذه الحيويات حتى يكمل التفكير وينضج، أو حتى ينمو العلم ويغزر.. وإلا تعرضت حياة الكائن الحي إلى الدمار والبوار.. والإيمان حيوي للإنسان حيوية الطعام والشراب والهواء سواء بسواء. ومن ثم يكله الله فيه إلى تلاقي الفطرة بآياته المبثوثة في صفحات الكون كله في الأنفس والآفاق.
259- وفي سياق الحديث عن سر الموت والحياة تجيء القصة الأخرى:
«أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، قالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟ فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ. قالَ: كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ! قالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ- وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ- وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
من هو «كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ» ؟ ما هذه القرية التي مر عليها وهي خاوية على عروشها؟ إن القرآن لم يفصح عنهما شيئاً، ولو شاء الله لأفصح، ولو كانت حكمة النص لا تتحقق إلا بهذا الإفصاح ما أهمله في القرآن. فلنقف نحن- على طريقتنا في هذه الظلال- عند تلك الظلال. إن المشهد ليرتسم للحس قوياً واضحاً موحياً. مشهد الموت والبلى والخواء.. يرتسم بالوصف: «وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» .. محطمة على قواعدها. ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية. هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره: «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» ..
إن القائل ليعرف أن الله هناك. ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء.. وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته، فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر.
«أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» ..
كيف تدب الحياة في هذا الموات؟
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 299