نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 301
وإنه- هو نفسه- ليجفل من ضغط المنطق الفطري، الذي يلجىء الإدراك البشري إلجاء إلى الاعتراف بما وراء الخلية الأولى، فيرجع كل شيء إلى «السبب الأول» ! ولا يقول: ما هو هذا السبب الأول؟ ما هو هذا السبب الذي يملك إيجاد الحياة أول مرة، ثم يملك- حسب نظريته هو وهي محل نظر طويل- توجيه الخلية الأولى في طريقها الذي افترض هو أنها سارت فيه صعداً، دون أي طريق آخر غير الذي كان! إنه الهروب والمراء والمحال [1] !!! ونعود إلى خارقة القرية لنسأل: وما الذي يفسر أن ينال البلى شيئاً ويترك شيئاً في مكان واحد وفي ظروف واحدة؟ إن خارقة خلق الحياة أول مرة أو خارقة رجعها كذلك لا تفسر هذا الاختلاف في مصائر أشياء ذات ظروف واحدة.
إن الذي يفسر هذه الظاهرة هو طلاقة المشيئة.. طلاقتها من التقيد بما نحسبه نحن قانوناً كلياً لازماً ملزماً لا سبيل إلى مخالفته أو الاستثناء منه! وحسباننا هذا خطأ بالقياس إلى المشيئة المطلقة: خطأ منشؤه أننا نفرض تقديراتنا نحن ومقرراتنا العقلية أو «العلمية!» على الله سبحانه! وهو خطأ يتمثل في أخطاء كثيرة:
فأولاً: ما لنا نحن نحاكم القدرة المطلقة إلى قانون نحن قائلوه؟ قانون مستمد من تجاربنا المحدودة الوسائل، ومن تفسيرنا لهذه التجارب ونحن محدود والإدراك؟
وثانياً: فهبه قانوناً من قوانين الكون أدركناه. فمن ذا الذي قال لنا: إنه قانون نهائي كلي مطلق، وأن ليس وراءه قانون سواه؟
وثالثاً: هبه كان قانوناً نهائياً مطلقاً. فالمشيئة الطليقة تنشئ القانون ولكنها ليست مقيدة به.. إنما هو الاختيار في كل حال.
وكذلك تمضي هذه التجربة، فتضاف إلى رصيد أصحاب الدعوة الجدد، وإلى رصيد التصور الإيماني الصحيح، وتقرر- إلى جانب حقيقة الموت والحياة وردهما إلى الله- حقيقة أخرى هي التي أشرنا إليها قريباً.
حقيقة طلاقة المشيئة، التي يعنى القرآن عناية فائقة بتقريرها في ضمائر المؤمنين به، لتتعلق بالله مباشرة، من وراء الأسباب الظاهرة، والمقدمات المنظورة. فالله فعال لما يريد. وهكذا قال الرجل الذي مرت به التجربة:
«فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ، قالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
260- ثم تجيء التجربة الثالثة. تجربة إبراهيم أقرب الأنبياء إلى أصحاب هذا القرآن:
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى! وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ، فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
إنه التشوف إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية. وحين يجيء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل.. حين يجيء هذا التشوف من إبراهيم فإنه يكشف عما يختلج أحياناً من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين! [1] يراجع بتوسع فصل «فرويد» في كتاب: «الإنسان بين المادية والإسلام» (دار الشروق) .
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 301