نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 302
إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره وليس طلباً للبرهان أو تقوية للإيمان.. إنما هو أمر آخر، له مذاق آخر.. إنه أمر الشوق الروحي، إلى ملابسة السر الإلهي، في أثناء وقوعه العملي.
ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل، الذي يقول لربه، ويقول له ربه. وليس وراء هذا إيمان، ولا برهان للإيمان. ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيستروح بها، ويتنفس في جوها، ويعيش معها.. وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان.
وقد كشفت التجربة والحوار الذي حكي فيها عن تعدد المذاقات الإيمانية في القلب الذي يتشوف إلى هذه المذاقات ويتطلع:
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى! وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» ..
لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف.
ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله. ولكنه سؤال الكشف والبيان، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه، والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم، مع عبده الأواه الحليم المنيب! ولقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلع في قلب إبراهيم، ومنحه التجربة الذاتية المباشرة:
«قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
لقد أمره أن يختار أربعة من الطير، فيقربهن منه ويميلهن إليه، حتى يتأكد من شياتهن ومميزاتهن التي لا يخطىء معها معرفتهن. وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة. ثم يدعوهن.
فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى، وترتد إليهن الحياة، ويعدن إليه ساعيات.. وقد كان طبعاً..
ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه. وهو السر الذي يقع في كل لحظة. ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه. إنه سر هبة الحياة. الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد.
رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه.. طيور فارقتها الحياة، وتفرقت مزقها في أماكن متباعدة. تدب فيها الحياة مرة أخرى، وتعود إليه سعياً! كيف؟ هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه. إنه قد يراه كما رآه إبراهيم. وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن. ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته. إنه من أمر الله. والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه، لأنه أكبر منهم، وطبيعته غير طبيعتهم. ولا حاجة لهم به في خلافتهم.
إنه الشأن الخاص للخالق. الذي لا تتطاول إليه أعناق المخلوقين. فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب. وضاعت الجهود سدى، جهود من لا يترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب!
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 302