نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 362
إذا أخذنا بالروايات التي تقول: إن الآيات الأولى من هذه السورة إلى بضع وثمانين آية منها قد نزلت في مناسبة قدوم الوفد من نصارى نجران اليمن، ومناظرته للرسول- صلى الله عليه وسلم- في أمر عيسى عليه السلام، فإن هذا الدرس بجملته يكون داخلا في إطار هذه المناسبة. لولا أن هذه الروايات توقت مجيء ذلك الوفد بالسنة التاسعة للهجرة، وهي السنة المعروفة في السيرة باسم «عام الوفود» حيث كان الإسلام قد انتهى إلى درجة من القوة والشهرة في الجزيرة العربية كلها- وفيما وراءها كذلك- جعل الوفود من شتى بقاع الجزيرة تفد على النبي- صلى الله عليه وسلم- تخطب وده، أو تعرض التعاهد معه، أو تستجلي حقيقة أمره.
ونحن كما أشرنا فيما تقدم نحس أن الموضوع الذي تعالجه هذه الآيات، وطريقة علاجها له، كلاهما يرجح أن هذه الآيات نزلت مبكرة في السنوات الأولى للهجرة.. ومن ثم فنحن أميل إلى اعتبار ما ورد في هذه السورة من حجاج وجدل مع أهل الكتاب، ونفي للشبهات التي تضمنتها معتقداتهم المنحرفة، أو التي تعمدوا نثرها حول صحة رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- وحقيقة عقيدة التوحيد الإسلامية، وكذلك ما اقتضاه كيد أهل الكتاب من تحذير للجماعة المسلمة وتثبيت.. نحن أميل إلى اعتبار هذا كله غير مقيد بحادث وفد نجران في السنة التاسعة وأنه كانت هناك مناسبات أخرى مبكرة هي التي نزل فيها هذا القرآن من هذه السورة.
ومن ثم سنمضي في استعراض هذه النصوص بوصفها مواجهة لأهل الكتاب غير مقيد بهذا الحادث الخاص المتأخر في التاريخ [1] .
على أن هذه النصوص- كما قلنا في التمهيد للسورة- تكشف عن الصراع الأصيل الدائم بين الجماعة المسلمة وعقيدتها، وبين أهل الكتاب والمشركين وعقائدهم.. هذا الصراع الذي لم يفتر منذ ظهور الإسلام- وبخاصة منذ مقدمه إلى المدينة وقيام دولته فيها- والذي اشترك فيه المشركون واليهود اشتراكاً عنيفاً يسجله القرآن تسجيلاً رائعاً دقيقاً.
ولا عجب أن يشاركهم بعض رجال الكنيسة في أطراف الجزيرة العربية في صورة من الصور. ليس بعيداً عن الواقع أن يفد أفراد منهم أو جماعات لمناظرة النبي- صلى الله عليه وسلم- ومجادلته في المواضع التي يظهر فيها الاختلاف بين عقائدهم المنحرفة والعقيدة الجديدة القائمة على التوحيد الخالص الناصع- وبخاصة فيما يتعلق بصفة عيسى عليه السلام.
وفي هذا الدرس منذ ابتدائه تحديد لمفرق الطريق بين عقيدة التوحيد الخالصة الناصعة والشبهات والانحرافات.
وتهديد لمن يكفر بالفرقان وآيات الله فيه، واعتبارهم كفاراً ولو كانوا من أهل الكتاب! وبيان لحال المؤمنين [1] يذكر الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه القيم: (سيرة الرسول: صورة مقتبسة من القرآن الكريم) أنه «يستفاد من الروايات أن هذا الوفد قد قدم إلى المدينة في الربع الأول من الهجرة» ولا أدري إلى أي الروايات استند في تحديد هذا التاريخ. فكل الروايات التي رجعت إليها تحدد العام التاسع أو لا تذكر إلا قصة وفد نجران مع بقية الوفود (ومعروف أن عام الوفود هو العام التاسع) .
نعم ذكر ابن كثير في التفسير احتمال أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية ولم يقل علام استند في هذا الاحتمال، ولم يحدد رواية عن السلف يستند إليها في هذا الاحتمال.
وعلى أية حال. فإن احتمال نزول هذه الآيات في وفد نجران متعلق باحتمال أن الوفد قدم قبل الحديبية. فإذا صح هذا صح ذلك.
أما إذا اعتمدنا الروايات الكثيرة عن توقيت قدوم وفد نجران عام الوفود في السنة التاسعة، فإننا نجد أنفسنا مضطرين للفصل بين هذه الآيات والمناسبة التي تذكر الروايات أنها نزلت فيها.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 362