responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 1  صفحه : 495
كي يعمق وقع المشهد في حسهم ويثير الخجل والحياء من الفعل، ومقدماته التي نشأ عنها، من الضعف والتنازع والعصيان.. والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في ألفاظ قلائل.. فهم مصعدون في الجبل هرباً، في اضطراب ورعب ودهش، لا يلتفت أحد منهم إلى أحد! ولا يجيب أحد منهم داعي أحد! والرسول- صلى الله عليه وسلم- يدعوهم ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح: إن محمداً قد قتل، فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم.. إنه مشهد كامل في ألفاظ قلائل..
وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول- صلى الله عليه وسلم- بفرارهم، غماً يملأ نفوسهم على ما كان منهم، وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه- وهو ثابت دونهم، وهم عنه فارون- ذلك كي لا يحفلوا شيئاً فاتهم ولا أذى أصابهم. فهذه التجربة التي مرت بهم، وهذا الألم الذي أصاب نبيهم- وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم- وذلك الندم الذي ساور نفوسهم، وذلك الغم الذي أصابهم.. كل ذلك سيصغر في نفوسهم كلّ ما يفوتهم من عرض، وكل ما يصيبهم من مشقة:
«فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ» ..
والله المطلع على الخفايا، يعلم حقيقة أعمالكم، ودوافع حركاتكم:
«وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» ..
154- ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها، وهرجها ومرجها، سكون عجيب. سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم، وثابوا إلى نبيهم. لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين! والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم، حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع:
«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» ..
وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين، ولو لحظة واحدة، يفعل في كيانهم فعل السحر، ويردهم خلقاً جديداً، ويسكب في قلوبهم الطمأنينة، كما يسكب في كيانهم الراحة. بطريقة مجهولة الكنه والكيف! أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة.
فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة! روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال:
«رفعت رأسي يوم أحد، وجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس» .
وفي رواية أخرى عن أبي طلحة: «غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه» ..
أما الطائفة الأخرى فهم ذوو الإيمان المزعزع، الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم، والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية، ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة، ولم يستسلموا بكليتهم لقدره، ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص، وليس تخلياً من الله عن أوليائه لأعدائه، ولا قضاء منه- سبحانه- للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل:
«وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ. يَقُولُونَ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟» ..
إن هذه العقيدة تعلم أصحابها- فيما تعلم- أن ليس لهم في أنفسهم شيء، فهم كلهم لله وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له، ويتحركون له، ويقاتلون له، بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد،

نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 1  صفحه : 495
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست