نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 544
يلي هذه الحقيقة في سياق الدرس استجابة الله «لِأُولِي الْأَلْبابِ» وقد توجهوا إليه سبحانه بدعاء خاشع منيب، وهم يتدبرون كتاب الكون المفتوح، ويتأملون ما ينطق به من الآيات، وما يوحي به من الغايات.. استجابته لهم استجابة توجيهية إلى العمل والجهاد والتضحية والصبر، والنهوض بتكاليف هذا الإيمان، الذي ثابوا به من جولتهم الخاشعة في كتاب الكون المفتوح.. مع التهوين من شأن الذين كفروا وما قد يستمتعون به من أعراض هذه الحياة. وإبراز القيم الباقية في الجزاء الأخروي، التي ينبغي أن يحفل بها المؤمنون الأبرار.
وعطفاً على الحديث الطويل في السورة عن أهل الكتاب ومواقفهم من المؤمنين، يرد هنا في هذا القطاع الأخير ذكر الفريق المؤمن، وجزاؤه المناسب، ويبرز من صفاتهم صفة الخشوع، التي تتناسق مع مشهد أولي الألباب أمام كتاب الكون المفتوح، ودعائهم الخاشع المنيب. وصفة الحياء من الله أن يشتروا بآياته ثمناً قليلاً، كأولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، وتقدم وصفهم في السورة.
ثم تجيء الآية الخاتمة تلخص التوجيهات الإلهية للجماعة المسلمة، وتمثل خصائصها المطلوبة، وتكاليفها المحددة، والتي بها يكون الفلاح:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا، وَصابِرُوا، وَرابِطُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
وهو ختام يناسب محور السورة الأصيل، وموضوعاتها الرئيسية، ويتسق معها كل الاتساق.
190- «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا. سُبْحانَكَ! فَقِنا عَذابَ النَّارِ. رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ: أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ. فَآمَنَّا. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا، وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ... » ..
ما الآيات التي في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار؟ ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عند ما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم؟ وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم؟ وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف:
«رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ! فَقِنا عَذابَ النَّارِ» ..
إلى نهاية ذلك الدعاء؟
إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم. وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون، بالليل والنهار.
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيهاً مكرراً مؤكداً إلى هذا الكتاب المفتوح الذي لا تفتأ صفحاته تقلب، فتتبدى في كل صفحة آية موحية، تستجيش في الفطرة السليمة إحساساً بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب، وفي «تصميم» هذا البناء، ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق، ومودعه هذا الحق، مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان!!! وأولو الألباب.. أولو الإدراك الصحيح.. يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية ولا يقيمون الحواجز، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات. ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم، وتشف مداركهم، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 544