ويأخذون حصتهم منه.. ولو عكس لبقي العوام محرومين، مع ان جمهور العوام لا يجردون اذهانهم عن المألوفات والمتخيلات، فلا يقتدرون على درك الحقائق المجردة والمعقولات الصرفة الاّ بمنظار متخيلاتهم وتصويرها بصورة مألوفاتهم. لكن بشرط ان لايقف نظرُهم على نفس الصورة حتى يلزم المحال والجسمية او الجهة بل يمر نظرهم الى الحقائق.
مثلا: ان الجمهور انما يتصورون حقيقة التصرف الالهي في الكائنات بصورة تصرف السلطان الذي استوى على سرير سلطنته. ولهذا اختار الكناية في (الرحمن على العرش استوى) [1] واذا كانت حسيات الجمهور في هذا المركز فالذي يقتضيه منهجُ البلاغة ويستلزمه طريقُ الارشاد رعايةَ افهامهم واحترامَ حسياتهم، ومماشاة عقولهم ومراعاة أفكارهم. كمن يتكلم مع صبي فهو يتصبى في كلامه ليفهمه ويستأنس به. فالأساليب القرآنية في أمثال هذه المنازل المرعي فيها الجمهور تسمى بـ"التنزلات الإِلهية الى عقول البشر"، فهذا التنزل لتأنيس اذهانهم. فلهذا وضع صورَ المتشابهات منظاراً على نظر الجمهور. ألا ترى كيف أكثر البلغاء من الاستعارات لتصور المعاني الدقيقة، أو لتصوير المعاني المتفرقة! فما هذه المتشابهات الا من أقسام الاستعارات الغامضة، اذ انها صور للحقائق الغامضة.
أما كون العبارة مُشكلاً؛ فإما لدقة المعنى وعمقه، وايجاز الاسلوب وعلويته، فمشكلات القرآن الكريم من هذا القبيل.. وإما لإِغلاق اللفظ وتعقيد العبارة المنافي للبلاغة، فالقرآن الكريم مبرأ منه. فيا أيها المرتاب! أفلا يكون من عين البلاغة تقريب مثل هذه الحقائق العميقة البعيدة عن أفكار الجمهور الى أفهام العوام بطريق سهل؟ اذ البلاغة مطابقة مقتضى الحال فتأمل..
أما الجواب عن الريب الثاني، وهو ابهام القرآن في بحث تشكل الخلقة على ما شرحته الفنون الجديدة:
فاعلم! ان في شجرة العالم ميلَ الاستكمال، وتشعَّبَ منه في الانسان ميلُ الترقي، وميل الترقي كالنواة يحصل نشوّه ونماءه بواسطة التجارب الكثيرة، ويتشكل ويتوسع بواسطة تلاحق نتائج الأفكار؛ فيثمر فنوناً مترتبة بحيث لا ينعقد المتأخر الاّ بعد [1] سورة طه: 5