والجندي في الحرب تشغله على الأقل مخافتان: مخافة على نفسه وعلى المجاهدين معه من أخطار الموت أو الهزيمة، ومخافة على أهله من الضياع والعيلة لو قتل.. لذلك انساق البيان الكريم يطرد عن قلبه كلتا المخافتين. أما أهله فقد وصى الله للزوجة، إذا مات زوجها، بأن تمتع حولًا[1] كاملًا في بيته، وكذلك مطلقته سيتقرر لها حق في المتعة لا ينسى، فليقر عينًا من هذه الناحية "240-242".
وأم خوف الموت فليعلم أن الذي يطلب الموت قد توهب له الحياة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} .
أما خوف الهزيمة، فإن النصر بيد الله {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} وتلك سنة الله في المرسلين "246- 253".
هكذا أُبعدت المخاوف كلها عن قلوب المجاهدين، بعد أن زودت أرواحهم بزاد التقوى، وهكذا أصبحوا على استعداد نفسي كامل، لتلقي الأوامر العليا، فليصدر إليهم الأمر صريحًا بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم "244- 245"[2].
=قصيرًا وهذا التحول سريعًا؟ أليست النفس في سيرها هنا تدركها رجة خفيفة لهذا التحول السريع الذي تفرضه عليها حركة قائدها؟ ألا فاعلم، علمك الله، أن هذه سرعة مقصودة، وأن من الخير لنا أن نحس بهذه الرجة الخفيفة من أثر ذلك التحول السريع؛ فإن لذلك مغزى عميقًا في تربية النفوس المؤمنة.. إن هذه النقلة تصور لنا ما يجب أن يكون عليه المؤمن، إذا سمع نداء الواجب الروحي وهو منهمك في معركة الحياة، فكأننا بهذا الأسلوب الحكيم ينادينا: إنه ليس شأن المؤمن أن يحتاج إلى كبير معالجة للتسامي بروحه فوق مشاغل الأهل والولد، وإنما شأنه أن ينتشل نفسه من غمرتها انتشالًا فوريًّا، ليسرع إلى تلبية ذلك النداء الأقدس، قائلًا للدنيا كلها: "دعيني أتعبد لربي". نعم هذا شأن المؤمنين {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} . [1] للمفسرين في هذه الآية قولان مشهوران: أحدهما: أنها وصية مندوبة لا واجبة. الثاني: أنها كانت واجبة في صدر الإسلام ثم نسخت بالآية السابقة "234" التي توجب تربص أربعة أشهر وعشرًا لا أكثر ... وواضح أن كلا القولين مبني على أن آية الحول يسري حكمها على الأزواج عامة.. ولكن السياق الحكيم أوحى إلينا هذا المعنى الجديد: وهو أن تربص الحول الكامل كان خصوصية فضلت بها زوجات المجاهدين على زوجات القاعدين. والله أعلم. [2] من الطرائف البيانية في أسلوب القرآن هنا أن النتيجة فيه تقع من المقدمات موقع المركز من الدائرة، لا موقع الطرف من الخط كما هو شأن الأسلوب التعليمي المشهور. ألا ترى هذا الأمر بالقتال في سبيل الله "244" قد=