ولتفصل لهم العبر التاريخية، التي تثبت أقدامهم حين البأس، والتي تزيدهم أملًا في النصر "246- 253".
والجهاد كما قلنا جهادان: جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وليس الجهاد بالمال وقفًا على شئون الحرب، بل هو بذله في كل ما يرفه عن الأمة، ويقوي شوكة الدولة، ويحمي حمى الملة.
ولقد أخذ الجهاد بالنفس حظه من الدعوة في آية قصيرة "244" ثم في آيات كثيرة "246- 253". وأخذ الجهاد بالمال بعض حظه في آية قصيرة "255" فمن العدل أن يأخذ تمام حظه في آيات كثيرة كذلك. وهكذا نرى الدعوة إليه تأخذ الآن قسطها؛ مطبوعًا بطابع الشدة تارة "254- 260"[1] وطابع اللين تارة "261" وطابع التعليم المفصل لآداب البذل تارة أخرى "262- 274".
الآيات من 275- 283:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ
=أحيط من جانبيه كليهما بدعائمه وبواعثه، إجمالًا قبل، وتفصيلًا بعد؟ .. على أن هذا المنهج الطريف لا يخص هذا الموضع من القرآن، فإنك ستجد شواهده مبثوثة في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز.. تدبر قوله تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإن كمال الدين الإسلامي باشتماله ماديًّا وروحيًّا على كل النظم الكفيلة بإصلاح الفرد، والأسرة، والجماعة، والدولة، والإنسانية العامة، لم يذكر يذكر من دلائله قبل إلا طرف يسير. أما بقية البرهان فقد نثرت حباته على أثر ذلك إلى تمام الآية العاشرة من السورة المذكورة..: وانظر قوله تعالى في سورة النحل: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فقد جاء وسطًا بين دلائل الوحدانية في التدبير، ودلائل الوجدانية في الإنعام والإحسان.. وتأمل قوله في السورة نفسها: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} فقد جاء بعد تبيين أصول العقيدة، وقبل تبيين أصول الفضيلة العملية. ومن جملة السابق واللاحق، يتألف البرهان على صدق هذه القضية، وهي أن الكتاب تبيان لكل شيء.. [1] في هذه الآيات السبع تحذير شديد للبخلاء من يوم لا يبذل فيه فداء، ولا يغني فيه خليل عن خليله، ولا تنفع فيه شفاعة الشافعين؛ ثم تأكيد لهذا المعنى يمحو كل شبهة يتعلق بها من يعتمد على الشفعاء، ونفى كل سلطان ونفوذ لغير الله، ورفع كل ريبة عن حقيقة يوم الدين.. وذلك كله ليكون البذل عن إيمان وعقيدة سليمة، لا رياء ولا زلفى لأحد، ولكن ابتغاءً لوجه الله الواحد الأحد.