ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أبعد العرب عن هذا التعمل والتصنع والتحبير حتى لقد نهى عن ذلك وناط به الهلاك والخسران. تدبر ما يرويه مسلم وأبو داود من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" والتنطع في الكلام: التعمق فيه والتفاصح. وروى الشيخان أنه جاءه رجل من هذيل يخاصم في دية الجنين فقال: يا رسول الله كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل. ولا نطق ولا استهل. فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع. وفي رواية أنه قال: "أسجع كسجع الأعراب". وفي رواية أخرى أنه قال: "أسجع الجاهلية وكهانتها". فأنت ترى أنه ذم هذا السجع المصنوع وجعل صاحبه من إخوان الكهان ومن جهلة الجاهلية. وما ينبغي له أن يذم شيئا ثم يقع فيه. وحاشاه وحاشا بيانه الشريف من هذا الإسفاف والتعمل الخسيس. ودونك السنة النبوية فاقرأ منها ما شئت فلن تجد إلا جيدا مطبوعا ومعاذ الله أن تجد فيها متكلفا مصنوعا. والقرآن أعلى في هذا الباب وأجل. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
الجواب الثاني: أن هذه الشبهة تخالف في أساسها ما هو واقع معروف: ذلك أن القرآن الكريم منه ما نزل مفاجأة على غير انتظار وتفكير وبدون تلبث وتدبير وهو أكثره. ومنه ما نزل بعد تشوف واستشراف وطول انتظار وهو أقله. ومع هذا فأسلوبه الأعلى هو أسلوبه الأعلى ونظمه المعجز هو نظمه المعجز في الحالين على سواء.
تأمل ما جاء في سبب نزول قوله سبحانه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وهو أن اليهود قالت لقريش: سلوا محمدا عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوه فقال: "ائتوني غدا أخبركم" ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه ثم نزلت الآيات جوابا لتلك الأسئلة بعد تلك المدة الطويلة