في إعطاء كل حادثة حكماً على المعاني الكلية العامة، وهذا هو عين الاستدلال المرسل.
ولما كان اعتبار مثل هذا يحتاج إلى دليل فقد بين أن الشافعي عضد استدلاله هذا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتمدون فيما لم يرد فيه نص على المصالح التي شهدت النصوص لاعتبارها في الجملة، وإن لم يشهد لها نص معين فإنه قال: "لم يرو عن أحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل أو استثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن، يعني بذلك والله أعلم أن محل ذلك فيما لم يرد فيه نص ميعن أو لم يكن فيه قياس إلحاق بنظير، لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتمدون في الفتوى على الأصول التي شهدت لها النصوص بالاعتبار ولو كانت في الجملة وإن لم يذكروا هذه الأصول وتلك الفتوى لقوة معرفتهم بالأصول ومقاصدها فهم لم يكونوا محتاجين بعد إلى ذكر مثل ذلك.
ثم بين أن المراد من النصوص معانيها، والمعاني ليست منصوصة على سبيل التعيين، والمعاني إذا استندت إلى الأصول جاز التمسك بها، وعلى هذا فلا يمكن التمسك بالنصوص وحدها أو الأصول بمفردها، لأنها لا تفي في الدلالة على حكم كل واقعة بعينها، كما أن المعاني الجزئية لا تفي أيضاً بذلك.
وعلى هذا فلا بد من التمسك بالمعاني الكلية التي ترجع إلى أصول الشرع وقواعده العامة، وهذا هو الاستدلال المرسل.
ثم بين أن الشافعي إنما يعتبر المصلحة إذا كانت شبيهة بالمصالح المعتبرة وقريبة من معاني الأصول الثابتة، وإن لم يشهد لها أصل معين، لأنه يرى أن اعتبار المعنى بالمعنى تقريباً أولى من اعتبار صورة بصورة، بمعنى جامع، وهذا هو الاستدلال المرسل، لأنه اعتبار مصلحة لمشابهتها مصلحة أخرى تشترك معها في جنس عام دل الشرع على اعتباره في الجملة بشرط أن لا تعارض نصاً، فإن عارضها نص كان ذلك دليلاً على إلغائها[1]. [1] انظر تفاصيله في: نظيرة المصلحة في الفقه الإسلامي ص 355-357.