فهذا النص يدل على أن أبا حنيفة[1] كان يعتمد في استنباط الأحكام وتفريع المسائل على كتاب الله ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أقوال أصحابه يختار منها ما شاء ويدع ما شاء، ولا يخرج عنهم، فإن لم يجد مطلبه في الأدلة المذكورة اجتهد رأيه.
وذكر الموفق المكي[2] في كتابه مناقب أبي حنيفة ما نصه: "كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة وفرار من القبح والنظر في معاملات الناس، وما استقاموا عليه وصلح عليه أمرهم يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له، فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به، فكان يوصل الحديث المعروف الذي قد أجمع عليه ثم يقيس عليه ما دام القياس سائغاً، ثم يرجع إلى استحسان[3] أيهما كان أوفق رجع إليه. [1] هو: النعمان بن ثابت بن زوطي، المكنى بأبي حنيفة، الإمام العالم الثبت الفقيه المتطلع إلى الحقائق، الحاضر البديهة، الرحب الصدر للمناظرة أسنّ الأئمة الأربعة، ولد سنة 80هـ، اتفق العلماء على إمامته وعلمه، من تأليفه المسند في الحديث وينسب إليه الفقه الأكبر، قيل: إنه أدرك أنس بن مالك رضي الله عنه، وقيل غير ذلك، نشأ بالكوفة وتربى فيها بدأ بالجدل حتى صار رأساً فيه، ثم اتجه إلى الفقه، ودرس على علماء بلده كحماد بن أبي سليمان وغيره من علماء التابعين حتى صار إماماً، توفي رحمة الله سنة 150هـ.
انظر: أبو حنيفة لأبي زهرة، والفتح المبين 1/101 فما بعدها. [2] الذي عثرت على ترجمته ممن ألف في مناقب أبي حنيفة هو محمد بن محمد الكردري، حافظ الدين الفقيه الحنفي المشهور بابن البزاري، من مؤلفاته مناقب الإمام الأعظم وقد طبع، توفي سنة 827هـ.
انظر: شذرات الذهب 7/183، الأعلام 7/274، غير أنهما لم يصرحا بأنه ملقب بالموفق المكي، والله أعلم. [3] الاستحسان هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى منه، وقيل: هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه، وقيل: هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، وقيل: هو دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته، وقد عقد ذلك صاحب المراقي بقوله:
والأخذ بالذي له رجحان ... من الأدلة هو استحسان
أو هو تخصيص بعرف ما يعم ... ورأي اسستصلاح بعضهم يؤم
ورَدّ كونه دليلاً ينقدح ... ويقصر التعبير عنه متضح
انظر: المحلى مع الآيات البينات 4/193، ومختصر ابن الحاجب مع شرحه 2/288، ونشر البنود شرح مراقي السعود 2/262 فما بعدها.