أخذ بالثقة، وفرار من القبح والنظر في معاملات الناس، وما استقاموا عليه وصلح عليه أمرهم يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح القياس يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به"[1].
فهذا النص صريح في أن أبا حنيفة رحمه الله كان يأخذ بالاستحسان والعرف، وأما الاستحسان فهو كما نقله عنه أصحابه كان أرحب مجال له في المناقشة والاستدلال، ولذا قال محمد بن الحسن[2]: "إن أصحابه كانوا ينازعونه القياس، فإذا قال: استحسن لم يلحق به أحد" [3].
وكان في إكثاره من الاستحسان والاعتماد عليه مثار نقد وطعن في فقهه ممن لم يقف على حقيقة معنى الاستحسان عند أبي حنيفة حيث حمله على محض القول المجرد عن الدليل، كما فهمه الشافعي رحمه الله ورد عليهم.
وعلى فرض أن الاستحسان شامل للقول المجرد عن الدليل العاري عن أي دليل فهو أيضاً شامل من باب أولى لدليل الرأي المستند إلى ما يعضده من المصالح التي شهدت أصول الشرع وقواعده العامة باعتبارها "ومعنى هذا أن القدر الذي أنكره الشافعي من الاستحسان غير شامل لما ينطبق عليه اسم الاستصلاح بدليل ... إنه هو بنفسه كان يأخذ به تحت اسم القياس، وإذا فالقدر الذي يدخل منه في باب الاستصلاح، وهو ما سموه باستحسان المصلحة، ليس هو المراد بإنكار الشافعي للاستحسان، وما جاء في كلامه حوله"[4].
ولذلك حاول الحنفية بيان معنى الاستحسان بما يخرجه عن كون الأخذ به [1] انظر: المناقب للمكي 3/87، نقلاً عن أبي حنيفة لأبي زهرة ص 266. [2] هو: محمد بن الحسن الشيباني الإمام الفقيه الأصولي اللغوي، المكنى بأبي عبد الله صاحب أبي حنيفة، وناشر علمه، ولد سنة 131هـ بواسط بالعراق، وتفقه على أبي حنيفة وأبي يوسف، وتبحر في الفقه والأصول حتى كان مرجع أهل الرأي بالعراق، اجتمع به الشافعي وأخذ عنه وقال فيه: ما رأيت أعلم بالقرآن والحلال والحرام والعلل والناسخ والمنسوخ من محمد بن الحسن، له مؤلفات في الأصول والفقه، توفي سنة 189هـ بعد أن كان قاضياً للرشيد.
انظر: شذرات الذهب 1/321 فما بعدها، والأعلام 6/309، الفتح المبين 1/110 - 111. [3] انظر: أبو حنيفة لأبي زهرة ص 387. [4] انظر: ضوابط المصلحة ص 381.