وانصرف الأمير إلى موضعه وهو متفكر قد ذهب نشاطه ثم التفت إلى ندمائه فقال: يا قوم! لو شهدتم طعام أمير المؤمنين ورأيتم ما يرفع ويوضع من صنوف الأطعمة ثم جعل يصف ذلك الطعام ثم قال: لو رأيتم الطعام الذي يخبز قد تنوق في بياضه وجودته وطحنه ثم ينخل بالشعر ثم ينخل بالكرابيس ثم ينخل بالحرير حتى يبقى مخه فقط توقد ناره بالقصب فإذا سكن وهجه بخر التنور بالعود القماري وخبز بصنوف الطعام - ثم وصف ما يتخذ له من صنوف الألوان من الحار والبارد والرطب واليابس والحلو وغير ذلك - وهذا الحمال طعامه ما قد رأيتم ومائدته طبق من سعف النخل ثم طأطأ رأسه وجعل ينكت بأصبعه على الحصير ساعة.
ثم قال: يا غلام! ائت منيبا خازن الكتب فمره يخرج لي سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فأتاه به فجعل ينظر فيه فقال: اسمعوا ما كان طعام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: عراق لحم الإبل مطبوخ بماء وملح وأقراص من شعير غير منخول فقيل له يا أمير المؤمنين! لو أكلت غير هذا الطعام فقد وسع الله على المسلمين فقال: هاه! إن الله - تبارك وتعالى - عير قوما بأكلهم بقوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} . [الأحقاف 20] .
فجعل يصف لهم سيرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وتدمع عيناه.
فلما فرغ قال: يا غلام! قل لمنيب يخرج لي سيرة عمر بن عبد العزيز.
فأخرج إليه فجعل ينظر فيه ويصف لندمائه ثم قال: أبعد الله بطنا يعقب صاحبه ندما يوم الحسرة في عرصة القيامة.
هذا عبد الله بن عمر - زين أبناء الصحابة - اشتهى عنبا فلم يذقه.
هذا سعيد بن المسيب - زين التابعين - يقول: ليت أن الله جعل رزقي في مص حصاة فقد استحييت من كثرة الاختلاف إلى الحش.
هذا الربيع بن - خيثم اشتهى خبيصا فلم يذقه.
هذا مالك بن دينار هذا فلان هذا فلان فجعل يذكر وتدمع عيناه.
ثم قال: ترى القوم لم يشتهوا طيب الطعام؟! ولكنهم زهدوا عن الفاني للباقي وباعوا القليل بالكثير وصبروا في دنياهم فنالوا الذي طلبوا خرجوا من الدنيا خماصا جياعا حفاة عراة فلم تأكل الأرض منهم شحما ولا لحما بليت الجلود على العظام والعروق.