بل إن الوضع ينقلب عندما يرتكبان ظلمًا، وحينئذ يجب على الأولاد دعوتهما إلى الواجب، وبوسعهم أيضًا أن يوقفوهما أمام القضاء. ألا ما أعظم ما يشعر به المسلم نحو أبويه من احترام، وما أعمق ما يكنه لهما من حب، لا سيما[1] إذا كانوا على دين واحد، ولكن حبه للحق، واحترامه للعدالة يجب أن يرجح عنده. وعلى حين يحرم قانون نابليون على الابن أن يشهد ضد أبيه وأمه في قضية مدنية أو جنائية[2]، نجد أن القرآن يقول بعكس ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [3]. وعلينا كذلك أن نطيع ولاة أمورنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [4]، ولكن بشرط أن يكون ما يصدرون من الأمر مشروعًا، فإذا كانت هذه المشروعية موضع نزاع وجب أن نحتكم في خلافنا إلى كتاب الله، وسُنة رسوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [5], اللهم إلا إذا كان الأمر مخالفة واضحة للقاعدة، فإنه لا يستحق منّا إلا الرفض الصريح المجرد. يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عبد الله بن مسعود, رضي الله عنه: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما [1] قلنا "لا سيما", ولم نقل "وبخاصة"، والواقع أن القرآن يعلمنا أن اختلاف الرأي الديني لا يعفي الأولاد مطلقًا من أن يسلكوا مع أبويهم بعدل واحترام ومودة، وفي آية لقمان 15: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ولم يرد القرآن بذلك أن يجعل من هذا الواجب الإنساني امتيازًا مقصورًا على الأبوين، فهو يعلمنا بعكس ذلك أن الناس جميعًا -بقطع النظر عن عقائدهم- يجب أن يتمتعوا بعدالتنا وبرّنا: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] . [2] انظر: code napoleon, livre i, Tur 21. [3] النساء: 135. [4] النساء: 59. [5] النساء: 59.