ومن البيّن في الأمثلة السابقة أن الإنسان هو الذي يجعل نفسه مسئولًا بتدخل إرادي، لو لم يكن لبقي حرًّا، أن يفعل أو لا يفعل، والمسئولية التي يتحملها حينئذ، أمام الله -كما رأينا- ليست بأقل من المسئولية التي تقع على كاهله، أن يقوم بالواجبات الجوهرية.
ومع ذلك، فمن المستحيل أن نقرر مبدأ "الإلزام الذاتي" هذا -دون قيد أو تحفظ، فلكي تكون وعودنا ورغباتنا صحيحة، قادرة على أن تحدد مسئوليتنا يجب على الأقل أن يكون موضوع تحقيقها نوعًا من الخير الذي سبق إقراره شرعًا. ولذلك يقول الرسول على سبيل الشرط فيما روته عائشة, رضي الله عنها: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" [1].
وكذلك الحال بالنسبة إلى مسئوليتنا عن تكاليفنا التي نتحملها تجاه الآخرين، مستقلة عن إرادتنا الفردية. ومثال ذلك أنه لا أحد ينازع حق الوالدين المقدس في احترام أولادهم وخضوعهم لهم، والله يقول: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [2].
بيد أن هذا الحق -على ما جاء في القرآن- لا يخولهما سوى سلطة محدودة ومشروطة، ذلك أن هذه السلطة لا تتوقف فقط عندما يطلبان منّا أن نخون الإيمان، أو نرتكب ظلمًا أيًّا كان: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [3]. [1] البخاري: كتاب النذور، باب 27، وقد صدر البخاري الباب بقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} "المعرب". [2] الإسراء: 23-24. [3] العنكبوت: 8.