ونعمه المادية والروحية؟ ولكن ألم يكن من الواجب حينئذ، بدلًا من أن نطمح إلى ثواب، أن نبتغي بسلوكنا الطيب أن يكون وفاء لدين، وشاهد عرفان بتلك النعم التي لا تحصى، والتي أنعم الخالق بها علينا، حتى من قبل أن نسأله إياها؟
وهكذا نجد أن كل رد فعل مستقبل، لا ينتج طبيعيًّا وتلقائيًّا؛ من طريقتنا في العمل -لا يمكن أن نقيم عليه برهانًا، أو أن نفرضه مقدمًا على أنه بدهي في ذاته، أو على أنه ضروري لإثبات الحقيقة الأخلاقية، وأقصى ما يمكن أن يبلغه هذا التعليل المسبق إذا ما طبق على فكرة العقاب أن تكون له بعض الصحة، وربما استعمله القرآن بهذه المناسبة أحيانًا.
وإنه لحق -في الواقع- أن المذنبين الذين يشعرون الآن بأنهم سعداء لن يظلوا دون عقوبة أبدًا، فإما أن يكون الخلق عبثًا، وإما أن تكون هنالك بكل تأكيد "رجعة" للعدالة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [1], {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [2].
بيد أنه لما كانت فكرة السعادة المستقبلة غير ذات ارتباط داخلي بفكرة الفضيلة، ولما لم يكن هناك مبدأ عقلي يحتم توافقهما، فإنهما منفصلان في عقولنا، ولسوف يظلان كذلك طالما لم يتدخل مشرع حر، إنساني أو علوي، بمبادرته الذاتية؛ كيما يوفق بينهما، ويقر ما بينهما التركيب المراد.
ومع ذلك, إن الأخلاق القرآنية كسائر الأخلاقيات الدينية -لم تقع في هذا التناقض الفلسفي، الذي يعزل عزلًا مطلقًا العنصر الأخلاقي عن العنصر الحسي، ثم يعود بعد ذلك إلى التوفيق بينهما ولكن متأخرًا جدًّا. [1] المؤمنون: 115. [2] القيامة: 36.