وليس عدلًا في ذاته فحسب أن تتساوى المكافأة مع الجهد المكافَأ، من حيث التركيب والغناء، ولكن من حكمة المنهج أن يكون التعليم الشامل مزودًا بنظام للبرهنة يتساوى في تنوعه مع تنوع الاتجاهات، والأمزجة، والعقول، لدى من يتوجه إليهم، بحيث يستطيع كل منهم، تبعًا لطريقته في التفكير، أن يرى فيه أمورًا صالحة لإقناعه. فيجب أن يجد الأمر بالواجب تسويغه في الحقيقة، بأية صورة تمثلت، ويجب أن يكون قادرًا على ممارسة تأثيره في النفس، بأية عين تأملته، وذلكم هو ما يقدمه لنا القرآن.
إن جلال الأمر الإلهي، ومطابقته للحكمة، وتوافقه مع الخير في ذاته، والرضا الذي يمنحه لأشرف المشاعر وأرقها، والقيم الأخلاقية التي يؤدي تطبيقه إلى تحقيقها، والغايات العظمى في هذه الدنيا، وفي الأخرى ... كل ذلك يسهم في دعم سلطان الواجب القرآني.
بيد أن خاتمتنا هذه، بدلًا من أن تذلل جميع الصعوبات، يبدو أنها أثارت صعوبة جديدة؛ ذلك أن جميع الطاقات حين تسخر على هذا النحو، وإذا ما توترت كل القوى ونشطت، وإذا ما تهيأت كل الوسائل واستعدت، فلا يبقى سوى أن تتحرك تحت عصا الإرادة -فهل سيكون من حق هذه الإرادة أن تستعير دوافعها من مجالات جدّ مختلفة؟ وهل يمكن أن يقوم أي شيء، في نظر القرآن على أنه حافز على العمل؟
وبعد أن وفقت الأخلاق القرآنية بين الاختلافات، وأجابت عن جميع المقتضيات المشروعة، على صعيد الجزاء -هل تبدو هذه الأخلاق لامبالية في مجال "النية" وذلك من وجهة نظر عرضنا للموضوع؟
أتكفيها المطابقة المادية، أيًّا كان المبدأ الذي يلهمها، أو حتى في غيبة الشعور بالواجب كلية؟ ... تلكم هي المسألة التي تواجهنا الآن بإلحاح، وهي ما خصصنا له الفصل التالي.