ولنمضِ إلى ما هو أبعد.
تصور عالمًا يكون الإنسان فيه منطويًا على نفسه، مقتصرًا على تغذية آماله، وصوغ مشروعات، أو حتى بذل جهود يائسة، وافترض أنه قضى عليه أن يدور في هذه الحلقة، دون نظر أو قدرة على الواقع -فأية غاية عقلية يمكن أن نعزوها إلى خلق آلة كهذه من الأفكار غير المؤثرة، والمشروعات المبتورة، والمحاولات المخفقة؟
أيكون هذا حقًّا هو النموذج المثالي لطبيعة عاقلة؟ إنا لنعتقد على خلاف ذلك بأن كل كائن مزود بعقل، مهمته على الأرض أن يخلق فيها وقائع موضوعية ممكنة، ودوره الأخلاقي أن يطوع هذا الخلق لفكرة الخير، حتى يجعل الدنيا من مرحلة إلى أخرى -أكثر كمالًا.
ومما لا شك فيه أن هذه المهمة المزدوجة، من العزم، والتحقيق، والتي ينظر إليها عمومًا على أنها مقسمة بين سلطتين متميزتين في الإنسان، يحتم الضمير الأخلاقي الذي لا يقبل الانقسام وجودها في وحدة شاملة. وحتى لو صادف جهدنا في التنفيذ تعويقًا، أو اعترضته عقبات لا يستطاع تذليلها، فإننا لا نتخلى عن الإحساس بهذه الضرورة المزدوجة الداخلية.
والحق أنه ينبغي أن نفرق هنا بين حالتين ممكنتين:
فإما أن يبدو لنا توقع هذه العقبات العصية في اللحظة التي تتحفز فيها الإرادة نحو التنفيذ، وبذلك يختنق عمل الإرادة في المهد، إذ إنه من التناقض أن نريد ما لا يمكن إرادته.
وإما أن تفاجئنا هذه الاستحالة بعد أن اتخذنا القرار، وحينئذ، يا لها من خيبة أمل يشعر بها الإنسان الفاضل في انتظاره للقيمة الموضوعية التي جد في طلبها!! ... إن هذا "الدش" البارد الذي يتعرض له حماسه أمام مشهد