وسيلة أخرى يجب أن تستخدم عندما تفرض بدورها نفسها؛ لتحقيق هذا الخيرالنوعي الذي يسميه مالك: المصلحة المرسلة.
وبفضل هذا المبدأ، استطاع هذا الفقيه أن يحل عددًا من مشكلات الأخلاق والشريعة في اتجاه جد أصيل، وإن اصطدم حينًا بنصوص الشريعة1
1 لنأخذ على ذلك المثال التالي: هل يجوز في حال الحرب أن نضرب في اتجاه جنودنا الذين أسرهم العدو، واستتر خلفهم ليضربنا ويحتل أرضنا؟ أم أن من الواجب -على عكس ذلك- أن نمسك عن الضرب رعاية للشرع الصريح الذي يمنعنا أن نستبيح دم بريء؟ والله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] .
يجيب الإمام مالك عن هذا السؤال مرجحًا الأخذ بأخف الضررين، ويعلل لذلك بأننا لو بقينا دون عمل، احترامًا لهذا العدد القليل من جنودنا، الذين جعلهم سوء الحظ درعًا للعدو. فإن بقية الجيش وهي الكثرة الكاثرة منه، قد تتعرض للهلاك، ثم لن ينجو أيضًا أسرانا من نفس المصير بعد ذلك. ولا ريب إذن في أن الشرع الإسلامي يقدم دائمًا إنقاذ الجماعة، ومصلحتها المشتركة والدائمة، على حياة الأفراد ومصالحهم العاجلة. ويختم حديثه بقوله: إننا مع احتياطنا للحفاظ على رجالنا -لا ينبغي أن نوقف الحرب, بل يجب أن نواصلها ولو أصيبوا من جرائها.
وإليك مثالًا آخر ذا طابع فقهي: هل للقاضي الحق في أن يأمر بحبس متهم في سرقة، دون أن يجد ضده دليلًا ماديًّا، أو شهادة، أو اعترافًا، على حين قد يكون في هذه الظروف غير مذنب؟ إن نص الشرع -كما نعلم- يمنع من الإضرار باليأس في أشخاصهم، أو أموالهم، أو أعراضهم، ما داموا لم يستحلوا حرامًا. ففي مسلم, كتاب البر, باب 10: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". وفي البخاري, كتاب الحج, باب 126: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام".
بيد أن الإمام مالكًا يعلل ذلك على الوجه التالي: بما أن من النادر أن يقر مجرم بجرمه، أو أن يرتكبه أمام شهود، أو أن يؤخذ في حال اقترافه للجريمة، فإن أكثر الجرائم سوف تمضي دون عقاب، إذا ما تمسكنا بهذه الأدلة الكاملة. وعليه، فمن المعلوم لنا أن الشرع قد عني عناية كبيرة بإقرار النظام الاجتماعي والحفاظ عليه، وأن يعمل بكل وسيلة على أن يؤمن لكل فرد مقدرته على أن يمارس حقوقه، على ملكيته. فلا بد لنا إذن من أن نلجأ إلى إجراءات أقل تشددًا، يخضع لها المتهم، لا لكي نغتصب منه مطلقًا اعترافًا بما لم يفعل، مجردًا من أية صحة، من حيث صادرًا عن إكراه, بل بأمل أن نحمل هذا المتهم على أن يرشدنا إلى دليل واضح. وجدير بالذكر في هذا المقام أن هذه المدرسة, ترى أيضًا أن مثل هذه الإجراءات لا تكون شرعية إلا بشرط أن تكون بداية هذا الدليل قد كشفت من قبل ضد المتهم.