على أن القرآن لا يقدم لنا هذا الأمر الإلهي على أنه سلطة مطلقة، مكتفية بنفسها لكي تكون في أعيننا أساسًا لسلطان الواجب، بل إن مما يثير العبرة في هذا المقام أن نلحظ -على العكس- العناية الفائقة التي التزمها هذا الكتاب في غالب الأحيان، حين قرن كل حكم في الشريعة بما يسوغه، وحين ربط كل تعليم من تعاليمه بالقيمة الأخلاقية التي تعد أساسه. ومن ذلك أنه عندما يدعونا أن نتقبل من أهلينا كل تسوية للصلح، حتى لو كانت في غير صالحنا يؤيد دعوته بتلك الحكمة: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [1]، وعندما يأمرنا أن نوفي الكيل، ونزن بالقسطاس المستقيم يعقب على هذا الأمر بقوله {ذَلِكَ خَيْر} [2].
ولكي يسوغ قاعدة الحياء، التي تطلب من الرجال أن يغضوا أبصارهم، ويحفظوا فروجهم -نجده يسوق هذا التفسير: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [3]، وبعد أن يأمرنا بتبين السبب قبل أن نصدر حكمًا يقول: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [4].
وكذلك نجد الأمر الذي يقتضينا أن نكتب ديوننا، وآجال أدائها -مفسرًا بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [5].
وإنه ليكفينا عن تعداد أمثلة الأوامر الخاصة، أن نرى الطريقة التي يدفعنا بها إلى التماس القيم الروحية، وكيفية توجيهه بصفة عامة, فضلًا عن عدد هذه الأوامر. قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [6]. وقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى [1] النساء: 128. [2] الإسراء: 35. [3] النور: 30. [4] الحجرات: 6. [5] البقرة: 282. [6] المائدة: 100.