هل يمكن أن نقرر عقلًا أن أحدًا من الناس لا يسمح له في أية حالة أن يبحث عن خيره الشخصي من حيث هو؟ وهل يمكن مثلًا أن نحرم على إنسان مهدد بالجوع والعطش أن يعمل "أعني: أن يأكل ويشرب"، تحت سلطان هذه الضرورة الفطرية؟ وهل ينبغي إذن أن ينتظر بضع لحظات كيما يستحضر أولًا أمر الواجب، فلا يعمل إلا بهذا الأمر، حتى لو كان هذا الانتظار يجعل أية محاولة للإسعاف غير مفيدة؟
إن هذا المثال وحده كافٍ لنعترف بقساوة وسخف هذا الرفض المنهجي لحق الإنسان في أن يسمع لصوت فطرته، ويستجيب لندائها البريء، وكل ما يجب علينا ألا ننساه هو: أن المسألة ليست مطلقًا أن نجعل من المنفعة المقبولة عقلًا مبدأ ثانيًا من مبادئ الأخلاقية، فشتان ما بين المنفعة والمبدأ والناس، كل الناس، في كلا المذهبين، متفقون على أن الأخلاقية "واحدة"، وعلى أنه لا توجد خارج إرادة الطاعة "بوجهيها" أية قيمة أخلاقية، "موضوعية" في أي مكان.
أما المعتدلون فيحاولون ببساطة أن يزيلوا هذه اللعنة التي أراد بعض الصوفية أن يصموا بها دون تمييز كل سعي ذي غاية ذاتية، مهما كان. أي: إنهم، بعبارة أخرى، يودون أن يجعلوا في مكان هذا التقسيم الثنائي تقسيمًا ثلاثيًّا، يصح بمقتضاه أن نجعل بين "الثواب" و"العقاب" مجرد "البراءة"، وبين اكتساب القيمة وفقدانها, نضع "اللاقيمة" la non- valeur، وبين مستوجب الثناء ومستوجب الذم مجرد "المشروع", وبين التكليف والتحريم الإباحة.
هذه التفرقة ذات الطابع الثلاثي لا تمثل جميع نواحي التشريع القرآني فحسب، ولكنا نجدها عند الحديث عن النية، على وجه التحديد، معبرًا عنها بصورة واضحة في حديث مشهور، رواه مالك، والبخاري، ومسلم، وجميع المحدثين، وفي ألفاظ هذا الحديث أن واقع تربية الخيل والاعتناء بها