سألتني يومًا أن أستقي لها جرة ماء، فثقل ذلك على نفسي، فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كانت لحظ، وشوب لنفسي، إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع"[1]، وما لبث صاحبنا في استعادته لما قام به أن أدان كل أعماله السابقة، وأدرك أن مهمته لما تكن قد بلغت غايتها.
"فالهدف من الجهد إذن هو تقليل الجهد"، وأعظم ميزة نحصل عليها منه هو أن يجعلنا مستقلين عنه شيئًا فشيئًا، وذلك في نفس الوقت الذي يجعلنا فيه أكثر إلفًا للعمل الذي درب عليه.
ولا ريب أن ذلك لا يكون نتيجة عادة نتصورها في شكلها الإستاتيكي الخالي من أية محاولة، بل من حيث هي منبع ديناميكي ينمو بالتطبيق، ويعدل نفسه بتعديل موضوعه، وهو يتيح لنا السيطرة على الموقف، في أكثر الظروف تنوعًا، ومفاجأة.
يجب أن يتعمق الصراع، ويتأصل، ويتحول إلى طبع خاص، فيصبح وكأنه فطرة ثانية، وبهذا وحده يمكن للمرء أن يتحدث عن أخلاق متحققة، لا عن أخلاق منشودة.
ويجب أن نذكر أن هاتين المرحلتين، من الصراع، والانتصار، أو بصفة [1] الرسالة القشيرية 49 ط. 1957، وأخبار أبي محمد المرتعش ورد بعضها متناثرًا في هذه "الرسالة". وجاءت مجموعة في "طبقات الصوفية" لابن عبد الرحمن السلمي ص349 وما بعدها، بتحقيق الشيخ نور الدين شريبة، وفي الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 106 ط. الحلبي، وقد كان رضوان الله عليه شديدًا على نفسه، كثير الشك في عمله، وكان يقول: "سكون القلب إلى غير الله عقوبة عجلها الله للعبد في الدنيا"، وروي أنه اعتكف مرة في العشر الأخير من رمضان فرأى المتعبدين يتهجدون, والقراء يقرءون، فقطع الاعتكاف, وخرج، فقيل له في ذلك، فقال: لما رأيت تعظيمهم لطاعتهم، واعتمادهم على عبادتهم لم يسعني إلا الخروج، خوفًا من نزول البلاء عليهم. "المعرب".