والظروف التي نزل فيها هذا النص الأخير تعيننا على تحديد معنى هذه الاستحالة، التي تبدو وكأنها غير متفقة مع الإلزام. ففي الآية السابقة عليه يقول الله سبحانه: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [1]. وقد اعتقد صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها تنطبق على كل ما يدور في الضمير: أفكارًا، أو عزائم، أو رغبات، أو هواجس، أو تخيلات ... إلخ, تمسكًا منهم بحرفية هذا النص العام. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما نزلت على رسول الله, صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} , اشتد ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصوم، والجهاد، والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية، ولا نطيقها، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} " [2]. وهنا نزل هذا النص التفسيري المذكور آنفًا ليقول لهم: "إن التكليف لا يتوجه إلى الإنسان إلا في حدود وسائله، وهكذا أدركوا أن أحوال النفس التي لا تخضع للإرادة ليست في الواقع، ولا يمكن أن تكون موضوعًا مباشرًا للتكليف، فضلًا عن الوساوس، والغرائز والشهوات، والميول الفطرية.
ولذا، فإن جميع الأوامر ذات الاتصال بالحب أو البغض، وبالخوف أو الأمل -قد فسرت عقليًّا لدى الشراح على أنها قد جاءت لتحكم عملًا سابقًا نشأت عنه هذه الحالات، أو عملًا مصاحبًا أو لاحقًا، ولكنه لا يمكن أن [1] البقرة: 284. [2] للحديث بقية في مسلم, كتاب الإيمان, باب 56، وقد أخرجه أحمد وأبو داود في ناسخه، والطبري في تفسيره 3/ 97.