وتلك أيضًا حالة تناسب شخصًا ذا طبع شديد الحساسية، أو تبلغ به الصرامة إلى الحد الذي لا يستطيع معه أن يعيش على وئام مع إخوانه، وفي مثل هذه الحالة يصبح أفضل ملجأ نلوذ به -بداهة- أن نتبع تلك الوصية الذهبية الإسلامية، من قول رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ليسعك بيتك، وأمسك عليك لسانك، وابك على خطيئتك" [1].
ولكن، هل يمكن أن نقارن الرجل الذي ينطوي على الصمت، ويلتزم الجمود، ليتجنب الصدمات المحزنة، بآخر يضحي براحته، وانفعالاته راضيًا مختارًا، من أجل السلام العام، ومن أجل سعادة الأمة؟
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يقول لنا: "المسلم إذا كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم"[2].
ولقد فهم المجربون الثقات هذا الحديث، وإليك بعضًا من أقوالهم:
قال الجنيد: "مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة".
وقال ذو النون المصري: "ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة كمن احتجب عنهم بالله".
وقال أبو علي الدقاق: "البس مع الناس ما يلبسون، وتناول مما يأكلون، وانفرد عنهم بالسر"[3].
ولهذا عرفوا "العارف" بأنه: "كائن بائن" أي: إنه كائن مع الخلق بشواغله العادية، بائن عنهم بالسر وبفكره المتعلق بالله. [1] الترمذي, كتاب الزهد, باب 60. [2] الترمذي, كتاب صفات القيامة, باب 55. [3] الرسالة القشيرية, المجلد الثاني ص139-142.