والشكل الوحيد للعزلة التي يمكن، بل ويجب، أن يعتبر نافعًا، ومرغوبًا فيه بالنسبة إلى كل الناس؛ لأنه يخلق القيم الإيجابية الأساسية هو الابتعاد الجزئي عن الضجيج الدنيوي، بقدر ما يلزم للاستجماع والتأمل الخصب. ولا أحد يماري في فضل هذا النوع من الانطواء، فهو الوسيلة الوحيدة, القادرة على إضاءة أفكارنا، وإعلاء مشاعرنا، وشحذ عزائمنا، ودعم صلاتنا بالقيمة المطلقة.
بيد أنه ليس بلازم أن يتم هذا الاعتزال خارج المدينة، وعلى حساب واجباتنا الأسرية والاجتماعية، فبدلًا من أن يعتبر انقطاعًا، ينبغي أن يكون بالأحرى اهتمامًا باسترداد أنفسنا خلال ساعات فراغنا، وبخاصة أثناء الليل، وهو ما يقصد إليه القرآن من قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [1].
وفضلًا عن ذلك فنحن نعلم أن هذا النموذج من العزلة الجزئية، والمتقطعة كان من شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يختار مبعوثًا إلى العالمين، ومنذ ذلك الحين، لم يزل الرسول يفزع إلى هذه العزلة من وقت لآخر، وبخاصة خلال العشر الأواخر من رمضان، وإن كان ذلك في بيته، أو بجوار البيت، في مسجده.
ولقد اقتدى كثير من صحابته -رضوان الله عليهم- به في هذا الاعتكاف، وما زال بعض المسلمين الصالحين يقتدون به فيه، حتى يوم الناس هذا. [1] المزمل: 6.
3- جهد وترفق:
أتاح لنا بحث المشكلتين السابقتين أن نطالع أفق التشريع القرآني، فالجهد المادي لا يزيد عن الجهد الأخلاقي، إذ ليس له في نظر الإسلام سوى قيمة تتناسب مع الخير الذي يستهدفه الشرع. وليس هنالك نص يدعونا إلى التماس