الوصول اليه والبيعة التي أخذت بستار من الكتمان كثيف، فأن أحدا لم يطّلع عليهما غير العبّاس وقلة قليلة من المسلمين. وحتى أهل المدينة غير المسلمين لم يعرفوا ما الذي حدث على وجه الضبط. وهكذا عجز المكيون عن الفوز بأية معلومات حتى من هؤلاء. ولكن ما إن انقضى موسم الحج، وغادر الناس مكة، حتى ذاع النبأ، ذلك بأن الرسول نفسه لم يكن شديد الحرص على كتمانه. وانطلق المكيون يتعقّبون القافلة المدينية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يدركوها. وأمسكوا برجلين اثنين، ففرّ أحدهما، على حين اقتيد الآخر، سعد بن عبادة، حتى مكة نفسها. ولكن سعدا كان قد أسدى إلى بعض المكيين في المدينة خدمة جليلة، فشفع له عند خصومه فأطلقوا سراحه. ومنذ ذلك الحين هاجر صحابة الرسول إلى المدينة، جماعات صغيرة، في كتمان تام عن المكيين. وأخيرا حان الوقت الذي خلّف فيه الرسول في مكة وليس معه غير اثنين من أصحابه، أبو بكر وعليّ، بعد أن وصل سائرهم إلى المدينة. وهذه الواقعة تلقي ضوآ إضافيا على ما عمر صدر الرسول من ايمان بالله وطيد. كانت عداوة المكيين له تتعاظم حدّتها يوما بعد يوم. ذلك بأن ترسّخ الاسلام التدريجي في المدينة اذكى غيظهم وأرّثه.
وإذ كان الرسول وحيدا، أو يكاد، وسط أعدائه الألداء فقد تعرّض لخطر عظيم. ومع ذلك فأنه لم يقلق على نفسه بقدر ما قلق على أصحابه، الذين بعث بهم إلى موطن آمن على حين تخلّف هو وسط عدوّه المتعطشين إلى الدم. كان محاطا من جميع اقطاره بمثل اولئك الأعداء، الذين لم تزدهم هجرة المسلمين إلى المدينة ورسوخ قدمهم هناك إلا ضراوة على ضراوة. وفي هذا دليل لا يتّهم على عمق ايمان الرسول بالرعاية الالهية. لقد كان في طوقه أن يشخص إلى المدينة قبل أي امرئ آخر. وما كان أحد من أصحابه ليتذمر من مثل هذا المسلك، إذ كان كل منهم يعلم ان سلامة دينهم، الاسلام، الذي كانوا على