من مكة. ودخل ابو بكر الغار أولا، فنطّفه، وسدّ الثقوب التي استطاع تلمّسها في الغار المظلم. ثم ان الرسول تبعه فدخل الغار.
وهكذا فأن الغارين يحتلان مركزا هاما في الاسلام. ففي غار حراء هبط الوحي أول ما هبط على الرسول الكريم، وها هو الاسلام يولد الآن من جديد في غار ثور. إن الهجرة يوم مشهود في تاريخ الاسلام إلى درجة جعلت المسلمين يستهلّون تقويمهم بها. ومن هنا، ففي طوق المرء ان يقول ان الاسلام انبثق من هذين الغارين.
وفي اليوم التالي، عند انبثاق الفجر، ذهل القرشيون إذ ألفوا عليا يغادر فراش الرسول. وأجريت تحريّات دقيقة في كل مكان، ووضعت جوائز ضخمة. وانتهت جماعة من مطاردي الرسول وصاحبه، المتعقبين آثارهما، إلى فم الغار نفسه. حتى إذا سمع ابو بكر وقع أقدامهم، تملّكه الأسى، لا جزعا على نفسه، ولكن جزعا على الرسول الذي كانت حياته أعزّ عنده من حياته هو. يا لها من لحظة حرجة! كان سيف العدو المتعطش إلى الدم مصلتا فوق رأسيهما. وكانت نظرة واحدة يختلسها ذلك العدو إلى داخل الغار كافية لأن تجعل الصاحبين يوقنان انهما لا بدّ هالكان، وان جسديهما لا بد سيمزقان إربا إربا.
وفي مثل هذه الحال يغور أشجع الافئدة، ويذهل ارجح العقول وأشدها هدوآ. إن العدو لمصمّم على قتلهما، وان الموت ليحدّق اليهما في وجهيهما. وليس إلى الفرار سبيل، ولم تبق ثمة أيما حماية أرضية.
في هذه الساعة البالغة الحرج، الراشحة باليأس المطلق، انطلقت هذه الكلمات، دون غيرها، من شفتي الرسول: «لا تحزن، ان الله معنا!» ... كلمات تنبئ عن قلب عامر بالطمأنينة والسكينة. وليس من ريب في أن هذا الصوت لا يمكن أن يكون منطلقا من باطن.
ذلك بأن قلب مخلوق بشري فان، كالرسول، ما كان في ميسوره ان يحتفظ- من غير ما عون الهي- بمثل هذا الهدوء المطمئن، في مثل