سفيان ما بقي ذلك الهذيان مسألة شخصية، وكان يؤثر تجاهله وعدم الرد عليه. ولكن ما إن عدا ابو سفيان نطاق الهذر الشخصي إلى التجديف على الله حتى عجز عن الاعتصام بالصمت. لقد حفزه احترامه لاسم الله العظيم إلى ان يرد على ابي سفيان ردا مناسبا. وكرة أخرى صاح ابو سفيان: «العزّى لنا! العزّى ليست لكم.» فسأل الرسول عمر أن يجيبه من جديد: «الله ناصرنا. أما أنتم فليس لكم من ناصر.»
ومع ذلك، فقد كان للرسول فؤاد مفعم بالشفقة حتى على أعدائه.
فبينا كانت النبال تنهمر عليه كان يتضرع إلى الله قائلا: «اللهمّ اغفر لقومي فانهم لا يعلمون!»
ولم يوفق بعض المسلمين- بعد أن عزلوا عن اخوانهم وسط البلبلة العامة التي عصفت بصفوف المسلمين عند هجوم خالد المباعت- إلى شق طريقهم عائدين إلى مواقع الرسول وصحابته، فتركوا الميدان متوهمين ان جيشهم قد هزم. ولكن زوجاتهم حثون التراب في وجوههم عندما علمن انهم خلّفوا الرسول في الميدان. ثم إن عددا منهن هرعن لتوّهن إلى الميدان، وكلهن يسألن عن الرسول ماذا فعل؟ لقد كان قلقهن عليه أعظم من قلقهن على بعولتهن وأنسبائهن. ويروى ان امرأة من الانصار نعي لها أبوها فاجتزأت بترديد الآية القرآنية المألوفة:
«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» * وتساءلت في لهفة: هل الرسول بسلام؟
عندئذ قيل لها إن أخاها استشهد أيضا. فردّدت الآية نفسها، ولكنها عاودت السؤال نفسه عن الرسول أهو بسلام؟ ثم إنهم حملوا اليها نبأ آخر موجعا: لقد قتل أبوها أيضا. فأطلقت زفرة عميقة وردّدت الكلمات نفسها. حتى إذا قيل لها: [ «هو بحمد الله كما تحبين» ] زايلها الكرب كله. [فقالت: «أرونيه حتى أنظر اليه» فأشير لها اليه] حتى إذا رأته تنفّست الصعداء وهتفت: «الآن وقد رأيتك فكل
(*) السورة 2، الآية 156.