مصيبة بعدك جلل.» * وبروح التسليم السامية نفسها صبرت النسوة الأخريات على مصابهن بأنسبائهن الذين صرعوا في المعركة ومثّل بهم.
وكان بعضهن، وفيهنّ عائشة، قد لزمن الجيش في المعركة، فكنّ يسقين الجرحى ويضمدن جراحاتهم في غمرة القتال. وبارتداد المسلمين إلى الجبل يحتمون به أمست المدينة عرضة للهجوم بكل ما في الكلمة من معنى. ولكن أبا سفيان وجموعه لم يؤانسوا في أنفسهم الشجاعة للعودة اليها. إن حالهم لم تكن بأحسن من حال المسلمين، ولقد عزّوا أنفسهم بانسحاب أعدائهم. إنهم لم يجرؤا على متابعة الحرب حتى النهاية خشية ان يفضي ذلك- وكان لهم ملء الحق أن يخشوا- إلى هلاكهم.
وهكذا انقلبوا عائدين، على جناح السرعة، إلى مكة، مجتازين عدة أميال في يوم واحد. وفي طريق عودتهم تساءلوا ما إذا كان يجوز لهم- من غير افتئات على الحقيقة- أن يزعموا أنهم رجعوا ظافرين.
إنهم لم يكونوا يملكون أية غنيمة من غنائم النصر يعرضونها على أنظار شعبهم، ولم يكن في أيديهم أسير حرب واحد ... أفيعدّ هذا نصرا؟ وكان الجيش الاسلامي لا يزال مسيطرا على ميدان القتال ...
أفيعتبر هذا نصرا؟ وكانوا قد عجزوا عن احتلال المدينة برغم انها تركت من غير دفاع ... أفيكون هذا نصرا؟ تلك كانت هي الخواطر التي راودتهم. واقترح بعضهم ان يرجعوا إلى المدينة ليحسموا المسألة، ولكنهم لم يوفقوا إلى استجماع الشجاعة للاقدام على ذلك. وفيما هم يتردّدون على هذا النحو لا يدرون ما يفعلون تسامعوا بأن الرسول يطاردهم بجيشه. والواقع ان القرآن الكريم أطرى البسالة التي أبداها المسلمون في تلك المناسبة إطراء عظيما. ** فهي تقول انهم استجابوا
(*) أي كل مصيبة بعدك هينة يسيرة. لأن «جلل» من الاضداد، وتعني الأمر العظيم والامر الحقير.
(**) «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.» السورة 3، الآية 153 (المعرب)