يردّد الشهادتين وأن يدعو نفسه مسلما. وكان له ولد اسمه عبد الله أيضا، ولكنه كان مسلما صادق الايمان، فأقبل عبد الله هذا، لدن وفاة أبيه، على الرسول والتمس منه فضلين: أولا أن يعطيه رداءه كي يتخذ منه كفنا لأبيه، وثانيا ان يصلي بنفسه صلاة الجنازة عليه.
ماذا؟ أمثل هذه المعاملة لعدوّ مثل عبد الله بن أبيّ! وهي معاملة مخصصة للأصدقاء. ولكن قلب الرسول كان أكرم من أن يضنّ، حتى على عدوّ لدود، بفضل. وهكذا أجاب عبد الله إلى ما طلب، فقدم اليه رداءه يكفّن به أباه، واستعد لاقامة الصلاة عليه. فلم يكن من عمر بن الخطاب إلا أن حاول ثنيه عن ذلك، مؤكدا ان الميت كان عدوّا للاسلام كبيرا. ولكن الرسول قال انه سوف يصلي، برغم ذلك، على جثمانه. فاحتج عمر لافتا نظر الرسول إلى الآية القرآنية التي تقول: «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.
إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» *.
فأجابه الرسول بقوله: «اذن فسوف أستغفر له أكثر من سبعين مرة.» ولقد سبق منا القول ان كرمه نحو المكيين كان لا يعرف حدودا، وها إن موقفه من هذا العدو الداخلي الألدّ لا يقلّ عن موقفه من المكيين سماحة وكرما. يا للمشاركة الوجدانية السابغة! لا ريب في أنه الشخصية الوحيدة في التاريخ المؤهلة بحكم الوقائع والارقام الثابتة لأن ينادى به «رحمة للعالمين» . كان فؤاده يفيض رأفة رؤوما لا بأصدقائه فحسب، بل بألدّ أعدائه أيضا.
وخمدت عداوة المنافقين للاسلام بوفاة عبد الله بن أبيّ. إن فضائل الاسلام ما لبثت أن تجلّت لهم، على نحو تدريجيّ، بعد أن أخفقت
(*) السورة 9، الآية 80.