من حرمك، واغفر لمن أساء اليك.» والحق ان هذه الوصية لم تبق عند الرسول حرفا ميتا أو موعظة رخيصة. لقد عاش وفقها حتى في أحرج المواقف. وفي معركة أحد، عندما جرح وسقط على الارض، سأله أحد الصحابة ان يستنزل اللعنة على العدو، فأجاب: «أنا لم أبعث لعّانا للعالمين ولكن بعثت هاديا ورحمة. اللهم اهد قومي فأنهم لا يعلمون.» وذات مرة جذبه بدوي طارحا دثاره حول عنقه، وحين سئل الرسول لم لم يعامله بالمثل أجاب قائلا إنه لا يردّ على الشرّ بالشرّ أبدا. وليس من ريب في أن ما أظهره عند فتح مكة من عفو كريم شيء يعزّ نظيره في تاريخ العالم كله. كان المشركون قد بذلوا كل جهد يمكن تصوّره للقضاء على الاسلام واغتيال الرسول.
ولكنه لم يوجّه اليهم أيّ كلمة تعنيف على هذه الجرائم الرهيبة كلها.
لقد أسبغ عفوه الجزيل حتى على أعداء من مثل ابي سفيان الذي لم يدّخر وسعا في العمل على ايذاء الاسلام، وعلى زوجته هند التي لم تتورّع عن مضغ كبد حمزة على نحو بربري شنيع.
وكان الرسول حييّا حتى التطرف. وكان أصحابه يقولون انه كان اشد خفرا من عذراء. والقرآن الكريم نفسه يشهد على ذلك أيضا.
فقد اوذي، ذات مرة، ايذاء بالغا بسبب من جهالة بعضهم، ولكنه لم ينطق بأيما كلمة تنمّ عن الاستنكار، فاذا بالقرآن الكريم يقول في هذه الحادثة: «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ.» * ولم يكن ليشير إلى نقائض الناس باسمائها. لا، لقد كان يعبّر عن استهجانه اياها بطريقة عامة. وذات مرة لمح لطخة على رداء رجل فسأل بعضهم أن يلفتوا نظره إلى ضرورة ازالتها بالغسل. فقد كان الحياء، عنده، بضعة من الدين. أما في المسائل الدينية، فكان يسارع إلى التصريح بما في
(*) السورة 33، الآية 53.