روح العصر نفسها. وبكلمة أخرى، انهم يظهرون، إذا جاز التعبير، في سياق التطور العادي. أما الرسول محمد فقد مثّل كل ما كان متناقضا أكمل التناقض مع حالة المجتمع العربي آنذاك. لقد تعين عليه أن يؤدي رسالته في غمرة من الفكرات السائدة لعهده. كانت الوثنية والشرك هما القاعدة الغالبة في تلك الايام. ولكن الرسول تكشّف، وهو بعد في السادسة عشرة من عمره، عن مقت شديد للاصنام. وكانت الخرافة تحجب ضياء العقل. ومن ثم كان المجتمع مغلّفا بطبقات من الجهل كثيفة. فهل في مستطاع جوّ كهذا أن يخلق عقلا فلسفيا كعقل الرسول محمد؟ وفي طول بلاد العرب وعرضها كان الافراد يفتخرون بالثورة على قبائلهم، في حين كانت هذه القبائل تكره، بدورها، فكرة السلطة المركزية. وليس بأمكان المرء أن يتوقع- في ظل هذه الاحوال، وخلال سير الأحداث العادي- ظهور رجل ينادي بمبدأ التناغم والوحدة. وكانت الخمر، والميسر، والزنا مألوفة عند العرب ينفقون فيها أوقات فراغهم كلها. وكان قتل الأولاد (الوأد) شائعا بينهم أيضا، وكانت المرأة تعامل معاملة المتاع، وواضح ان هذه الأوضاع كانت عاجزة في ذات نفسها عن إقامة قلعة أخلاقية أو إطلاع محرر للمرأة. والحق أن اليد الالهية نفسها، التي تعدّ الجوهرة الصافية في أشد الاعماق ظلاما، هي التي ابدعت واحتضنت هذا النور بعنايتها المباشرة لكي ينفذ خلل تلك السحب الكثيفة من الفساد الغامر، ويضيء كلّ بقعة على ظهر الارض.
أما ميزة الرسول العظمى والأخيرة فهي انه وضع الاساس لسلم كونيّ. انه لم يكتف بتعليم الناس كيف يستطيع المرء ان يحيا في سلام مع امرئ آخر، بل علّمهم أيضا كيف تستطيع الأسر المختلفة وشعوب الجنس البشري المتباينة ان تحيا في سلام وتناغم بعضها مع